الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

جنوب اليمن: انتفاضة المظالم أم نار تستعر تحت الرماد؟

الكاتب السوري صبحي حديدي
جنوب اليمن: انتفاضة المظالم أم نار تستعر تحت الرماد؟
تجري في جنوب اليمن، علي صعيد يوميّ بات منتظماً وشبه دوري، وقائع بالغة الخطورة وذات مفاعيل، وطنية واجتماعية وسياسية وإنسانية، تبدو وخيمة العواقب علي البلد بأسره، ولا تتناسب البتة مع معطيات السطح الظاهر للواقعة الواحدة٠
وبين أن تكون تلك الوقائع انتفاضة شعبية ذات مضامين مطلبية ومعيشية وحقوقية ملموسة (جوهرها العريض هو ردّ سلسلة من المظالم التي تعرّضت لها شرائح محددة من ابناء الجنوب بعد فشل تجربة الإنفصال وانتصار الشمال عسكرياً سنة 1994)، أو أن تتطوّر إلي ثورة برتقالية ، كما يذهب بعض المعلّقين اليمنيين، تُدرج هذه المظالم ضمن مشروع سياسي معارض عريض، مشروع ديمقراطياً في معظم بنوده، ولكنّ رغائب الإنفصال العتيقة ليست غائبة تماماً عنه؛ بين هذه وتلك ثمة هامش يوميّ مشتعل، في الشارع وفي الجامعة وفي النقابة، أشبه بقنبلة موقوتة صُنعت مادّتها الناسفة من خليط شديد الإنفجار: معاناة الظلم والإهمال والتمييز في جهة أهل الجنوب، والتمرّغ في الفساد والنهب والتسلّط في جهة أهل السلطة٠
وقبل أن ينخرط شخصياً، ويجنّد حشداً من مساعديه، في عقد اتفاق مصالحة بين منظمتَي فتح و حماس ، كان حرياً بالرئيس اليمني علي عبد الله صالح أن يتفرّغ أكثر ـ وقبلئذ، أو في آن معاً ـ للشروع في مصالحة من النوع ذاته، ولكن هذه المرّة بين يمنٍ ويمنٍ إذا صحّ التعبير، إذْ ليس سوي دفن الرأس في الرمال ما يسمح بإغماض العين عن تضخّم يوميّ للهوّة بين يمنَيْن: نظام صالح الذي يحكم منذ 30 سنة، والشطر الجنوبي بأكمله. وليس أدلّ علي الوضع المتدهور في محافظات الجنوب جميعها، الضالع وردفان ولحج وعدن وأبين وحضرموت، من اضطرار الرئيس اليمني إلي إطباق الحصار علي المدن والبلدات، ونشر قوّات عسكرية مكثفة، واستخدام سلاح الدبابات، وسقوط قتلي وجرحي، فضلاً عن مئات المعتقلين (بينهم قيادات بارزة في المعارضة: حسن باعوم، علي منصر، أحمد عمر بن فريد، ناصر الخبجي، محسن وهيب، حسين البكيري، يحيي غالب، علي هيثم الغريب، مفتاح علي أحمد...)٠
ولم تكن مبالغة أنّ البعض، أمام مشاهد المواجهات بين الجيش والمدنيين، عاد بالذاكرة إلي حرب صيف 1994 بين الجنوب و الشمال، والتي انتهت إلي انتصار قوّات صالح وإعادة فرض العمل باتفاقية 1990 التي وحّدت شمال اليمن وجنوبه. لكنّ النار ظلت تستعر تحت الرماد في الواقع، لأسباب تاريخية تخصّ الحاجة إلي مزيد من الوقت والتعايش الحرّ بين أبناء الشعبين في الشمال والجنوب، وضمن جدل افتقارهما معاً إلي ديمومة استقرار نسبية. مناطق جنوب وشرق اليمن لم تعرف نظاماً سياسياً واحداً إلا في عام 1967، حين تمّ بالقوّة إدماج 21 سلطنة وولاية وإمارة في دولة واحدة تحت تسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وظلّ التناحر السياسي والحروب الأهلية ديدن البلاد، سواء في عهد الحزب الإشتراكي أو في سنوات الوحدة قبيل اندلاع الحرب الأهلية٠
والحال لم تكن مختلفة في الشمال، إذْ أنّ الولاءات القبلية تظلّ أكثر هيمنة علي حياة الأفراد، يُضاف إليها الخلاف المذهبي بين السنّة الشافعية والشيعة الزيدية، والذي يبلغ ذروته اليوم في ما يُسمّي تمرّد الحوثيين في منطقة صعدة، شمال غرب البلاد. وجدير بالذكر أنّ الحوثيين، إلي جانب مطالبتهم بوقف سياسة الحظر التي يقولون إنّ السلطة تمارسها ضدّ أتباع المذهب الزيدي، ومساواتهم بما يتمتع به أتباع المذاهب الإسلامية السنّية، يلعبون أيضاً علي حركات احتجاج أهل الجنوب ويطالبون بإنهاء سياسات التمييز ضدّ المحافظات الجنوبية ومنحها حقوقاً في الإعمار والتنمية مساوية لما تتمتع به محافظات الشمال. وهذا الموقف ليس عارضاً أو تكتيكياً طارئاً في الواقع، لأنّ حسين الحوثي والشيخ عبد الله الرزامي (الرجل الثاني في الجماعة) كانا قد سجّلا أحد أوضح المواقف الإسلامية الشمالية في هذا الصدد، حين انسحبا من جلسة مجلس النواب احتجاجاً علي إعلان الحرب ضدّ الجنوب سنة 1994٠
وهكذا فإنّ الأسباب الأخري، الاجتماعية والسياسية، تخصّ ممارسات السلطة المركزية في التمييز الفاضح ضدّ الجنوبيين من حيث التوظيف والإسكان، وفي اتباع سياسة خفية لتوطين المزيد من اهل الشمال في الجنوب. ومن الثابت أنّ صالح لم يتصرّف كرئيس وطنيّ لعموم اليمنيين، بل كفريق (شمالي) منتصر علي فريق (جنوبي) منهزم، وكانت أبكر توجهاته هي التغاضي عن مسارعة شيوخ عشائر الشمال إلي مصادرة الأراضي الحكومية ومزارع الدولة في الجنوب، وتوزيعها كغنائم (الـ فيد في التعبير اليمني الشائع) علي أنفسهم وعلي أنصارهم٠
كذلك وضع صالح جميع أفراد جيش الجنوب في سلّة واحدة، فاعتبرهم من العصاة والإنشقاقيين، وأحال إلي التقاعد الإجباري (بالرغم من إصداره مرسوماً بالعفو العام، بعد أن وضعت الحرب أوزارها) نحو 60 ألفاً من ضباط وأفراد ذلك الجيش. وأمّا الإجراء الثالث فقد كان التخفيض الشديد لحصص شباب الجنوب في التطوّع بالجيش، والذي يعدّ جهة تشغيل رئيسية في اليمن، وذلك علي نقيض القوانين المعمول بها، والتي لا تميّز بين شمالي وجنوبي بالطبع (يتندّر أهل الجنوب فيطلقون علي إجراءات التمييز في التوظيف تسمية سياسة خلّيك في البيت ). وأخيراً، جري تهميش الحزب الإشتراكي اليمني، الذي يعتبره الكثير من أبناء الجنوب ممثلاً سياسياً لهم، وتعمدت السلطات التضييق علي نشاطاته واعتقال قياداته بين حين وآخر٠
ليس غريباً، بالتالي، أنّ أحداث الشغب التي اندلعت في شهر آذار (مارس) من العام الماضي بدأت من اعتصامات متقاعدي الجيش، وأحداث نيسان (أبريل) هذه السنة بدأت من اعتصامات وتظاهرات آلاف الشباب الذين عادوا من مراكز تجنيد الجيش دون وظائف، علي عكس ما كانوا قد وُعدوا به. وسرعان ما انضمّت إليهم، بشكل طبيعي وتلقائي، جميع الفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات التمييز في التوظيف، وبينهم العاملون في قطاع النفط، الذين يبصرون الوظائف تذهب إلي أبناء الشمال في حين أنّ الجنوب ينتج قرابة 80% من الصادرات النفطية ومشتقاتها٠
وبمعزل عن هذا التوتر الاجتماعي ـ السياسي، تشكّل أحوال شطرَي اليمن المعيشية المتدهورة مصادر سخط دائم يسهم في تعميق الهوة ومضاعفة المآزق: دخل الفرد توقف منذ عام 2005 عند 350 دولاراً في السنة، وأكثر من 40% من السكان يعيشون علي أقلّ من دولار واحد في اليوم، ولا يلوح أبداً أنّ عملية التنمية أصلحت حال الفقراء، حيث زاد الفقراء فقراً، واتخذ البؤس مظاهر مفزعة مثل الزواج السياحي وتهريب الأطفال والتجارة بالرقيق الأبيض وجرائم المخدرات، وهذه وحدها ارتفعت عام 2007 إلي 140 جريمة و226 متهما، مقارنة بـ 45 جريمة و86 متهما عام 2005٠
كذلك تضاعف سكان اليمن الي 22 مليوناً منذ مجيء صالح للسلطة في اليمن الشمالي السابق، سنة 1978، وقد يقفز إلي 40 مليوناً في السنوات العشرين القادمة اذا لم يتمّ التحكم بشدّة في النموّ السكاني. وطبقاً لتقديرات الحكومة اليمنية، فإن الميزان المائي، في 19 من أصل 21 مصدر مياه جوفية، أصبح سلبياً تتفوق فيه كمية المياه المستخرجة علي كمية المياه المغذّية. والنفط، دعامة الإقتصاد اليمني الأولي، أخذ ينضب سريعاً، وقُدّر الانتاج رسمياً هذا العام بحوالي 300 ألف برميل يومياً، متراجعا عن 320 ألف برميل في 2007. والتراجع في الإنتاج يفرض علي الحكومة دعم أسعار الوقود المرتفعة، التي تمتص أكثر من مليار دولار سنوياً، أو حوالي ثلث ايرادات النفط، وهو خيار شديد الصعوبة في الظروف الراهنة٠
وفي المقابل، من المحتمّ أنّ يتسبب إلغاء الدعم في المزيد من ارتفاع الأسعار، الملتهبة أصلاً: القمح تضاعف منذ شباط (فبراير) الماضي، والأرز ارتفع بنسبة 20%، وأسطوانة غاز الطبخ ارتفعت من 400 إلي 1000 ريال. ومن المؤكد، استطراداً، أنّ جنون الأسعار سوف يشعل اضطرابات عنيفة في الأوساط الشعبية، وسوف ينقلب إلي مشاحنات أهلية مذهبية وعشائرية وسياسية، خصوصاً في أجواء التوتّر الأمني، وتصاعد عمليات القاعـــدة واستمرار تمرّد الحوثيين (ليس دون اسبــاب وجيهــة أنّ السفارة الأمريكية طلبت من رعاياها مغادرة اليمن، ونصحت القادمين منهم بعدم السفر)٠
الرئيس اليمني لم يقف متفرجاً بالطبع، إذْ بعد إرسال الدبابات إلي محافظات الجنوب، عقد اجتماعاً لمجلس الأمن القومي اليمني لكي يحذّر من نار قد تحرق أصابع الجميع، ولكي يتهم أحزاب المعارضة بافتعال أحداث الشغب وإشعال الحرائق. اللافت، مع ذلك، أنّ هذا المجـلس، المؤلف غالباً من ضباط في الأمن والجيش، تجـــاوز السلطة التشريعية التي يمثّلــها البرلمان اليمني، وأصدر تشريعاً يقضي باختيار المحافظين عن طــريق الإقتراع الشعبي، بدل تعيينهم بقرارات رئاسية. كذلك أصدر صالح مرسوماً يقضي بإعادة جميع الأراضي المصادرة إلي أصحابها، وتحرير كافة المزارع والأراضي الزراعية وأي مساحات من الأراضي السكنية من الممتلكات العامة أو الخاصة والتي تم وضع اليد عليها بطرق غير قانونية في محافظات الجمهورية٠
والحال أنّ الإجراء الأوّل بدا أشبه برشوة صريحة للجمهور، ولكنها من طراز بخس، شكلاني ودعاوي غالباً، لأنّ التشريع منح الرئيس الحقّ الحصري في تعيين المحافظين، ممّا يجعل الإقتراع الشعبي محض رياضة إنتخابية لا طائل من ورائها٠
وأمّا الإجراء الثاني فإنّ فضيلته الكبري كانت الإقرار الصــريح بالحجم الواسع، المريع والمكشوف و العشوائي، من التعدّيات التي مورست بعد حرب 1994!٠
وإذْ يقرأ المرء بعض ما جاء في خطاب محافظ عدن، أحمد محمد الكحلاني، في التظاهرات الحاشدة التي نظّمها حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم قبل أيام، احتفاء بما سُمّي يوم الديمقراطية ، فإنّ نبرة التخوين العنيفة كانت في الواقع تؤدّي تحية عسكرية للدبابات المنتشرة في محافظات الجنوب، أكثر من احتفائها بأية نسخة من أية ديمقراطية: إن انتخاب المحافظين يمثل رداً حازماً علي سياسة الخصومة مع الوطن ومع مصالح المجتمع اليمني الذي تنتهجه بعض أحزاب المعارضة أو الكيانات غير المشروعة، من خلال القلاقل التي تثيرها وعملية التحريض والإثارة والتشجيع علي الأعمال الغوغائية، وأحداث التخريب والسلب والنهب التي شهدتها بعض مناطق محافظتي لحج والضالع والتي لم تستهدف تلك الأحزاب من إثارتها سوي الإضرار بالسكينة العامة والسلم الاجتماعي دون اكتراث لما سيترتب علي هذا النزوع التدميري الحاقد من آثار علي حياة الناس ومعيشتهم٠
هذا الخطاب (الذي يذكّر، دونما أية مفارقة، بتسعة أعشار خطابات التخوين التي تعتمدها أنظمة الإستبداد العربية ضدّ معارضيها) يعيد إنتاج روحية موقف الرئيس اليمني نفسه، خصوصاً تصريحاته في اجتماعات مجلس الأمن القومي، ولا يحضّ في نهاية المطاف إلا علي إغماض العين عن مشاهد الإحتجاج، وصمّ الآذان عن هدير الجموع. وقد يكون من السابق لأوانه، كما يرجو المرء، أن تتطوّر مظاهر السخط في محافظات الجنوب إلي ما يقترب كثيراً من تكوين نعرات مناطقية تنتهي إلي تعاظم الحسّ بالحاجة، معيشياً وإنسـانياً قبل الرغائب السياسية،إلي الإنفصال مجدداً٠
ومع ذلك فإنّ عواقب الوقائع اليومية المتفجّرة تنذر، للأسف، بما هو أدهي من مجرّد نواس القنابل الموقوتة بين انتفاضة المظالم والثورة البرتقالية، خصوصاً حين تكون النار التي تحت الرماد أشدّ خفاءً، واعتمالاً واستعاراً، من أن يراها الناظر ببصر حديد... فكيف بدافني الرؤوس في رمال النهب والفساد والإستبداد!٠
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
 

هل أعجبك الموضوع:

ليست هناك تعليقات :