السبت، 19 نوفمبر 2011

الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ ( 2-3 )

الحوار المتمدن\ للكاتب العراقي سهر العامري

حزّ في نفسي أن أرى سترة ميشيل كامل ، سكرتير الحزب الشيوعي المصري ، قد أكل البلى أطراف أردانها ، ولهذا السبب قاسمته دينارين يمنيين جنوبيين ، كانا هما كل ثروتي ، وقلت وأنا أمد يدي بواحد منهما له : إنك تستطيع شراء أربع علب تبغ علامة ردفان المصنع في جمهورية اليمن الديمقراطية بهذا الدينار !


أخذ هو الدينار الواحد مني عن طيب خاطر ، ثم ودعته تاركا إياه في القاعة التي كانت تدار بها الندوة الموسعة عن الوحدة اليمنية ، وقد كان هو مثلي قد استمع الى مداخلة عبد الفتاح إسماعيل ، رئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ، عن ضرورة قيام الوحدة اليمنية مع عدم تماثل النظامين السياسيين في الدولتين ، ولم يكن عبد الفتاح إسماعيل هو وحده من كان يتبنى هذا الرأي ، وإنما كان هناك الكثير من اليمنيين في الجنوب يرون الرأي ذاته ، حتى أنك لتجد الكثير من بينهم من كان يرفض إطلاق كلمة : دولتين على جنوب وشمال اليمن ، ويقولون لك بدلا عن ذلك : نحن شطرنا وليس دولتين !

هنا يبرز العامل الثاني بعد عامل الاندفاع نحو الوحدة ، والذي يتجسد في عدم إدراك الواقع المادي المتمثل في حقيقة تقول إن جنوب اليمن هو دولة قائمة بذاتها ، وهي بالإضافة الى توجهاتها السياسية المختلفة عن تلك التوجهات في شمال اليمن تكون مختلفة كذلك في تطورها المادي (الاقتصادي) على تواضعه ، فالى أشهر من قيام الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الله السلال سنة 1962م على حكم الأئمة في الشمال كان سكان العاصمة صنعاء يشربون الماء من حنفيات تحيط بقصر الإمام (محمد البدر بن حميد الدين) بينما كان سكان العاصمة في عدن يأخذون حاجتهم من الماء عبر أنابيب مياه ممتدة الى بيوتهم .
وعلى أساس من ذلك فإنك حين تنزل جنوب اليمن لا ترى الكثير من مظاهر التخلف التي ترها وأنت تنزل الشمال منه ، وهذا الفارق في التطور على تواضعه ما كان ليحدث لولا التطور المادي الذي حدث بدءً بالفترة الزمنية التي هيمن المستعمرون البريطانيون فيها على جنوب اليمن ثم مرحلة التحرر الوطني التي أعقبت تلك الفترة مباشرة ، فلقد أشاد البريطانيون خدمة لجيوشهم العابرة للبحار ميناء عدن ومصفاتها ، تلك المصفاة التي كانت تعد من أكبر مصافي النفط في الشرق الأوسط ، ومن هنا شهد اليمن لأول مرة في تاريخه ظهور طبقة اجتماعية جديدة هي الطبقة العاملة التي كان من بين أبرز أبنائها البررة ذلك العامل القادم من شمال اليمن وأعني به عبد الفتاح إسماعيل الذي لعب هو ورفاقه من العمال دورا مهما في الكفاح ضد الهيمنة البريطانية أفضى في نهاية الأمر الى النجاح والظفر.
هذه في الوقت الذي ظلت فيه القبلية والفرق الدينية المتخلفة هي السائدة في الشمال اليمن ، وهي تكوينات تذكر بالحقب الرعوية والزراعية الذي عرفها اليمن منذ قرون بعيدة ، تلك الحقب التي لا يمكن مقارنتها بالحقبة الصناعية المتقدمة عليها ليس فقط بوسيلة الإنتاج المتطورة ، وإنما كذلك بما يصاحب تلك الوسيلة من رقي فكري وثقافي عند العاملين عليها ، ولهذا لا يمكن أن تعد عاملا يعمل في صناعة الطائرات من حيث تطوره الفكري ورقيه العقلي مثل عامل ينظف شارعا ووسيلة عمله مكنسة لا غير ، ولهذا أيضا لا يمكن للمرء أن يساوي بين الناس السائرين في شوارع العاصمة صنعاء وهم منتطقون بالخناجر حتى لكأنهم ذاهبون لخوض معركة ، وبين الناس في شوارع عدن حيث لا وجود لذلك المنظر المقزز الذي يذكر بحقب زمنية متخلفة ، ومن هنا يمكنني أن أنتقل الى العامل الثالث الذي قفز عليه متحمسو دعاة الوحدة من اليمنيين الجنوبيين وهو التطور الفكري الذي هو نتاج للتطور المادي بهذا الشكل أو ذاك ، والذي لعبت في إنضاجه الأحزاب السياسية ذات التوجهات التقدمية التي هي نتاج لذلك التطور المادي كذلك ، بينما ظلت الساحة في شمال اليمن ولفترة قريبة خالية من تلك الأحزاب ، فمثلا حزب علي عبد الله صالح شكله هو بنفسه بعد أن نجح باستلام السلطة في انقلاب عسكري إبان ازدهار تجارة الانقلابات العسكرية في العالم الثالث في فترة زمنية تصاعد فيها الصراع الدولي على مراكز النفوذ وهي الفترة الزمنية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، والتي أصطلح على تسميتها بحقبة الحرب البارد .
هذه الفوارق المختلفة كانت توجب على السياسيين في جنوب اليمن عدم تخطيها ، وأخذها بنظر الاعتبار في حالة ما اتخذت خطوات نحو تحقيق الوحدة اليمنية ، ولا يفوتني هنا أن أذكر أن الإتحاد الأوربي أجل انضمام جمهورية المجر بشكل كامل الى صفوفه بسبب من أن نسبة التضخم في الاقتصاد المجري كانت تفوق نسبة التضخم في بلدان الاتحاد الأخرى المنضوية تحت لوائه ، وعلى هذا الأساس فإن الوحدة التي تقوم على توقع هذا الرئيس أو ذاك لا يمكن لها أن تصمد أبدا حتى لو استخدمت كل أدوات القمع والقتل والتنكيل مثل تلك التي تقوم بها الآن قوات علي عبد الله صالح الملقب من لدن اليمنيين بـ ( بصدام الصغير ) تلك القوات التي راحت تبطش بالشعب اليمني الثائر في مدن الجنوب اليوم .
ليس أنا على يقين تام من أن عبد الفتاح إسماعيل ، ورغم تحمسه للتحقيق الوحدة اليمنية بنظامين مختلفين سياسيا كان سيندفع الى توقيعها بذات قدر اندفاع علي سالم البيض لها فيما بعد حين وقع ميثاقها مع علي عبد الله صالح ، هذان العليان الذي توقع شاعر اليمن الضرير عبد الله البردوني بأن أحدهما سيخصي الثاني بقوله من قصيدة له : أيّ علي سيخصي علي !
لكنني مع ذلك أعرف أن عبد الفتاح إسماعيل كان حاسما فيما يقول وذلك من تجربة عشتها فترة رئاسته للجمهورية اليمن الديمقراطية ، وذلك حين نشرت مقالة مطولة لي على الصفحة الأخيرة من جريد 14 أوكتوبر غب وصولي الى عدن بأيام ، تلك المقالة التي فضحت بها حملة القمع الشرسة التي كانت تشنها جهزة الأمن الصدامية في كل مدن العراق والتي طالت الكثير من العراقيين وفي المقدمة منهم الشيوعيون ، وهي حملة أراد لها صدام أن تجري بهدوء في وقت كان هو يضاحك فيه فيدل كاسترو في هافانا العاصمة الكوبية ، ويقدم له رشوة بلغت ثلاثين مليون دولار ، وكانت تلك واحدة من رشى كان صدام يقدمها لرؤساء دول منظمة عدم الانحياز كي يكون هو رئيسها المقبل .
لقد حملت مقالتي تلك التي ثارت لها ثائرة السلطات في العراق عنوانا هو : البوهة وتهمة القسمات ! ولهذا فقد أبلغ السفير العراقي في عدن من لدن تلك السلطات بضرورة مقابلة عبد الفتاح إسماعيل شخصيا ، ونقل احتجاج صدام ( ولا أقول الحكومة العراقية ) على مقالتي تلك التي كتبتها دون أن أشير الى اسم البلد ، أو اسم النظام فيه ، ومع ذلك فقد أخبرني الأخ أحمد سالم محمد ، مدير تحرير جريد 14 أكتوبر أن عبد الفتاح إسماعيل قال للسفير العراقي أنه قرأ تلك المقالة ، ولم يجد ما يشير فيها الى اسم العراق أو اسم النظام فيه ، فرد السفير العراقي وكان الغضب يأكل صدره : أنتم لا تعرفون لغة الشيوعيين العراقيين ، نحن وحدنا من يعرف تلك اللغة!! فما كان من عبد الفتاح إسماعيل إلا أن رد عليه بذكاء : أنا أشعر أنكم تخططون لقتل واحد أو أكثر من الشيوعيين العراقيين الذين هم في ضيافتنا ، ولهذا فإنني أحذركم من مغبة التعرض لأي واحد منهم ، وإن عواقب ذلك ستكون وخيمة على العلاقات بين البلدين .
لم تمر أيام على ذلك التحذير الشديد اللهجة حتى قام عملاء النظام العراقي في السفارة العراقية بقتل الشيوعي الدكتور توفيق رشدي ، أستاذ الفلسفة بجامعة عدن ، وبعد مرور ساعتين على حدوث تلك الجريمة شاهدت أنا ، وكانت الساعة تشير الى التاسعة مساء ، سيارة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل تمر مسرعة من أمام فندق نادي البحارة في التواهي من عدن ، وهو الفندق الذي كنت أسكن فيه. 
كانت سيارة الرئيس متجهة نحو مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني الذي لا يبعد كثيرا عن ذلك الفندق ، وقد انعقد وقتها في ذلك المقر اجتماع طارئ للجنة المركزية تقرر فيه مهاجمة السفارة العراقية ، وإلقاء القبض على الجناة حتى في حال ما قام صدام بتحريض علي عبد الله صالح في الشمال على شن حرب على جمهورية اليمن الديمقراطية .
طوقت السفارة العراقية في الحال من قبل قوات الأمن اليمنية وقوات مليشيا عدن ، وحددت ساعة معلومة للجناة من أجل تسليم أنفسهم وإلا فالبديل هو الاقتحام وإلقاء القبض عليهم بالقوة ، ولكن الجناة تسلموا برقية من بغداد التقطتها المخابرات اليمنية تطلب عدم تسليم أنفسهم وأن أرادوا الاستسلام فليستسلموا جثثا ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، فقد كانوا أجبن من أن (يستسلموا جثثا) ، وبدلا عنه فقد سلموا أنفسهم بعد أول قنبلة مسيلة للدموع أطلقتها القوات اليمنية على باب السفارة العراقية . 
السؤال الذي لم أجد إجابة له للآن هو : هل وصلت الى عبد الفتاح إسماعيل معلومات تفيد بأن المخابرات العراقية كانت تخطط لقتل واحد من العراقيين المتواجدين في عدن ، وذلك حين حذر هو السفير العراقي خلال مقابلته له، تلك المقابلة التي أشرت لها من قبل أم أن ذلك كان مجرد توقع منه ؟ 
هذه الحادثة تكشف مقدار الحزم الذي كان يتمتع به قائد جمهورية اليمن الديمقراطية إزاء قضية لا ترقى الى قضية الوحدة اليمنية بأي شكل من الأشكال . فهل كان هو سيظهر ذات الحزم ويقوم بوضع ضوابط مهمة تراعي الخصوصية السياسية والاقتصادية التي كان عليها الشعب اليمني في الجنوب قبل أن يخطو خطوة واحدة نحو توقيع ميثاق للوحدة مع الشمال أم أن حماسه ذاك ، الذي أشرت إليه قبلا ، سيقوده الى وحدة لا تختلف في مصيرها عن الوحدة التي ذهب إليها رفاقه بعد استشهاده ؟
لقد ذهب رفاق عبد الفتاح إسماعيل الى الوحدة وهم في حالة من الضعف ، وفي ظرف داخلي ودولي غير ملائم ، واعتقدوا أن تلك الوحدة ستحميهم من عدو يتربص بهم الدروب بعد أن خاض معهم معركة خاسرة نتجت عنها خسارة فادحة لهم جميعا ، مثلما نتج عنها ضياع مكتسبات الشعب اليمني في الجنوب ، تلك المكتسبات التي تحققت بعرق وكدح سنوات طويلة ، لتصبح فيما بعد لقمة سائغة بأفواه الضباع القادمة من الشمال . وهذه مسألة سآتي عليها في حلقة قادمة .

هل أعجبك الموضوع:

ليست هناك تعليقات :