لا يستطيع أحد أن ينكر أن عرب جنوب اليمن ( جمهورية اليمن الديمقراطية ) كانوا اشد حماسا على الصعيد الرسمي والشعبي للوحدة اليمنية من عرب شمال اليمن (الجمهورية العربية اليمنية ) خاصة حكومة علي عبد الله صالح ، وقد شعرت أنا بهذا الحماس المنقطع النظير حين نزلت عدن في العشرة الثواني من شهر شباط / فبراير سنة 1979م ، فقد كانت أجهزة الإعلام في جمهورية اليمن الديمقراطية تردد باستمرار الشعار القائل :
الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية ! وقد كنت أتساءل ساعتها كيف لوحدة أن تقوم بين نظام تقدمي وآخر عسكري رجعي معاد ٍ لكل ما يمت الى التقدمية بصلة ، نظام تسيطر عليه حالة من عداء سافر للنظام التقدمي الحاكم في جنوب اليمن بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني الذي انبثق عن إتحاد أحزاب يمنية جنوبية ثلاثة شاركت في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني ، وأنجزت مرحلة التحرر الوطني بنجاح ، والأحزاب هذه هي : الجبهة القومية ( الجناح اليساري منها بقيادة عبد الفتاح إسماعيل ) ثم حزب الشعب ( الشيوعي ) فحزب البعث ( اليسار ) وقد سهل اندماج هذه الأحزاب في حزب واحد هو تبني الجبهة القومية وحزب البعث للنظرية الماركسية ، وللخيار الاشتراكي ، وقد كان هذا العامل هو العامل الرئيس الذي سهل قيام الحزب الاشتراكي اليمني ، ذلك الحزب الذي وضع نصب عينيه تحقيق الوحدة اليمنية من خلال توحيد شطري اليمن شمالا وجنوبا .
أما نظام علي عبد الله صالح فقد كان يزايد على الشعب اليمني في الشمال والجنوب حين كان يرفع شعار توحيد اليمن ، وكان يسعى وبالتعاون مع نظم عربية الى القضاء على النظام في الجنوب ، وكان على رأس هذه الأنظمة في ذلك الوقت هو نظام صدام الذي لم يبخل على علي عبد الله صالح بالدعم المادي والمعنوي ، فقد منحه في سنة 1980م على ما أذكر مليار ومئتي ألف دولار ، وذلك خلال زيارة قام بها صالح الى العراق ، تلك الزيارة التي رافقها احتفاءً بالضيف بولغ فيه أيما مبالغة . كما كانت هناك بلدان عربية خليجية حذت حذوا مشابها لحذو نظام صدام ، وكان الهدف من ذلك هو إبعاد نظام صالح عن الوحدة مع الجنوب والعمل على صيانة نظامه من التهاوي أمام قوة المثل الذي كان يضربه الاشتراكيون في الجنوب خاصة على صعيد الإجراءات الاشتراكية التي تطبق في دولتهم ، والتي شملت الآتي :
* تحريم البطالة مثلما هي عليه الحال في الدول الاشتراكية .
* تحديد اجور متوازنة للعاملين في كل مرافق الدولة.
* ربط مستوى أسعار السلع الاستهلاكية وأجور النقل بدخول العاملين في الدولة .
* المثابرة على توفير السكن وبأسعار زهيدة تبلغ ثلاثمئة فلس للبيت وللشهر الواحد (الدينار اليمني الجنوبي يساوي 1000فلس ، ويزيد في صرفه على ثلاثة دولارات أمريكية ، وكان سعر صرفه هذا أكثر بقليل من سعر صرف الدينار العراقي وقتها حيث كان العراق يعيش في أوج تصديره للنفط )
* العلاج والدواء المجاني لجميع المواطنين ( ولقد التقيت أنا بمواطنين قدموا متسللين من اليمن الشمالي الى الجنوب ، وذلك من أجل الحصول على العلاج المجاني فيه ، وقد أبلغت منهم وقتها أن سعر زرقة الإبرة الواحدة في شمال اليمن هو ما يعادل ربع دينار يمني جنوبي .)
* الدراسة المجانية في جميع المراحل الدراسية .
* توفير الكتاب بأسعار زهيدة وبدعم من الدولة ، فالكتاب الذي تشتريه الدولة من لبنان بما يعادل دينار يمني جنوبي تبيعه الدولة نفسها للمواطنين بنصف السعر أي بنصف دينار.
* منح المرأة اليمنية حقوقا لم تتمتع بها أية امرأة في الدول العربية الأخرى . ( لقد شغلت المرأة اليمنية في الجنوب مراكز مهمة سواء كان ذلك في الدولة أم في قيادة الحزب الإشتراكي اليمني ، فقد كنت أعمل أنا بالإضافة الى عملي في جريدة 14 أكتوبر مدرسا لمادة الفلسفة في الصفوف المنتهية من المرحلة الثانوية ، وفي مدرسة مختلطة مديرتها الأخت الفاضلة خولة شرف التي أصبحت فيما بعد عضو في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني )
* هذا بالإضافة الى مشاريع الدولة المثمرة في مجالات الزراعة والتنقيب عن النفط وبعض الصناعات الناشئة ، وقد شاركت في تلك المشاريع معظم الدول الاشتراكية خاصة الاتحاد السوفيتي وقتها ، هذا في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول العربية تعمل بهمة على عرقلة إنجاز بعض من تلك المشاريع ، فلقد علمت وقتها أن المملكة العربية السعودية كانت تحبط جهود اليمنيين الجنوبيين في تعاقد مع الشركات الغربية من أجل التنقيب عن النفط سواء كان هذا التنقيب في المناطق اليمنية القريبة من حدودها أو في تلك البعيدة عنها ، وهذا ما جعل المسؤولين في جمهورية اليمن الديمقراطية التوجه نحو الإتحاد السوفيتي الذي باشرت شركاته التنقيب عن النفط في المحافظة السادس التي تسمى محافظة شبوة كذلك .
لقد مكنني عملي كمسؤول عن القسم الثقافي في جريد 14 أكتوبر العدنية بالإضافة الى عملي في تلك الثانوية من أن أكون قريبا الى ما كان يدور في مراكز لا تبعد عن مراكز القيادة في الدولة كثيرا خاصة حينما كنت أكلف من قبل إدارة الجريدة بجراء مقابلة صحفية مع هذا المسؤول أو ذاك سواء كان هذا المسؤول يمنيا أو سواء كان قادما في زيارة الى جمهورية اليمن الديمقراطية ، فذات مرة كلفني الأخ المرحوم مدير التحرير ، أحمد سالم محمد ، الذي تربطني وإياه علاقة وثيقة ، أن أجري مقابلة صحفية مع ميشيل كامل ، سكرتير الحزب الشيوعي المصري ، ورئيس تحرير جريدة اليسار العربي التي كانت تصدر من باريس ، وقد حضر هو ووفود كثيرة من دول أخرى وبدعوة من حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية من أجل المشاركة في ندوة دارت البحوث والمناقشات فيها عن أفضل السبل التي يتوجب على رجال الدولة في اليمن الجنوبي أن يسلكوها من أجل تحقيق الوحدة اليمنية .
لقد تمخضت تلك المناقشات عن نهجين متعاكسين ، نهج يرى إمكانية تحقيق الوحدة اليمنية مع عدم التماثل السياسي بين النظامين في شطري اليمن ، وكان عبد الفتاح إسماعيل ، رئيس الجمهورية ، وسكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ، على رأس المتحمسين لهذا النهج . أما النهج الآخر فقد كان يرى أن لا إمكانية لتحقيق الوحدة من دون أن يتماثل النظامان سياسيا في كلا الشطرين ، وكان أغلب أصحاب هذا الطرح من الوفود الأجنبية المساهمة في تلك الندوة ، فقد رأى الكثير منهم أنه لا توجد ضمانة أكيدة لقيام وحدة يمنية حقيقية بين نظام ينهج نهجا اشتراكيا ، وبين نظام يتصف بالتسلط والدكتاتورية ، ولا يستند الى قاعدة جماهيرية ، مثلما هي الحال مع نظام علي عبد الله صالح ، كما حذر أصحاب هذا الطرح كذلك بصدق من مغبة ضياع المكاسب السياسية والاقتصادية التي تحققت للشعب اليمني في الجنوب ، تلك المكاسب التي أشرت أنا الى بعض منها ، والتي لم يتوفر شيء منها لعرب شمال اليمن ، وذلك في حال ما قامت وحدة بين الجنوب والشمال ومن دون تمثال سياسي بين النظامين في كل منهما .
لقد كان الحماس الزائد عند القادة في جنوب اليمن من بين أهم الأسباب التي قادت الى توقيع اتفاقية الوحدة اليمنية في 30 شباط / نوفمبر سنة 1989م ، ومن ثمة الإعلان عن قيام الوحدة اليمنية في 22 مايس / مايو 1990م ، تلك الوحدة التي سرعان ما تحولت الى ضم وإلحاق ، وتحت قوة السلاح بعد أن خسر الجيش في الشطر الجنوبي كل مواقعه في 7 تموز / يوليو سنة 1994 م .
ورب سائل يسأل : هل كان الحماس المفرط عند قادة جنوب اليمن هو العامل الوحيد الذي كان يقف وراء قيام الوحدة اليمنية ؟
أبدا ، لم يكن هو العامل الوحيد ، إنما هناك عوامل أخرى سآتي عليها في فرصة أخرى ، رغم أنني موقن بأن الحماس المفرط الذي كانت تظهره القيادة في جنوب اليمن من أجل تحقيق وحدة اليمنيين كان مرده سعي القيادة تلك الى تحقيق أمنية عزيزة على قلوب الناس في اليمن بشطريه ، وذلك بإزالة تركة بغيضة فرضها الاستعمار البريطاني على الشعب اليمني .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق