عيضه العامري
عدن الغد
لقد اطلعت مؤخراً على صفحات أحد الجرائد الالكترونية موضوعاً للدكتور عيدروس النقيب تحت عنوان حول مفهوم الجنوب العربي ، وقد وزعه صاحبه إلى حلقات أخرج منها حتى الآن ثلاث حلقات . والموضوع وإن حاول صاحبه تقديمه بوصفه خطاباً ثقافياً .. إلا أن البعد الإيديولوجي ينضح منه في كل السياقات التي تناولها ، وهو ينحو في توجهه العام إلى تفكيك الوعي التاريخي لمجتمع الجنوب .
ومن ثم فالرجل يعبر من حيث يشعر أو لا يشعر عن رؤية حزبه بخصوص القضية الجنوبية في أبعادها المختلفة .. كيف لا و كاتبنا أحد قياداته اليوم . وهو طرح يندرج في إطار الكتابات المرسلة .. مرسلة لأنها مؤسسة على فرضيات و غير منزلة على الواقع التاريخي والاجتماعي .. ولا ادري كيف غلبت الأجندة الحزبية على الأجندة العلمية في كتابات رجل في مقام د. عيدروس .
صحيح بأننا اليوم في حاجة إلى ترشيد الخطاب تجاه القضية الجنوبية ، ولكن الخطاب الذي ننشده ينبغي أن يتأسس على ترشيد الوعي التاريخي .. لا ذلك الخطاب الذي ينحو نحو تفكيك الوعي التاريخي سواءً كان بوعي أو بدون وعي ، ويحاول إعادة إنتاج العبث الإيديولوجي بالهوية الثقافية . ذلك العبث الذي يتنكر لمرحلة مهمة من تاريخ الجنوب المجيد .. مرحلة تشكل فيها مجتمع الجنوب بوصفه رابطة إثنو اجتماعية . خطاب تعمد تغييب تلك المرحلة من تاريخنا الحديث من ذاكرة الناس الجمعية ، وهو خطاب أقل ما يوصف بأنه ثوري فوضوي وأحمق . وكان قد برز بعد استقلال الجنوب مباشرة ، حيث لم يروا في تلك الفترة غير مرحلة هامشية صنعها الانجليز فقط .. وكأن تاريخنا كشعب من منظور الكاتب وممن لف لفه لا يبدأ إلا منذ العام 67 م .. كل ذلك كان بهدف تبرير مشاريع إيديولوجية عبثية .. عبثية لأنها مشاريع مؤسسة على الأحلام فقط من دون إدراك لتعقيدات الواقع الاجتماعي والثقافي .
ذلك العبث الذي أكتشفه الجنوبيين بوصفهم الحلقة الضعيفة في المعادلة بعد بضع سنوات فقط من الوحدة وهو استدراك تشكل في سياق التواصل الاجتماعي مع الآخر بمختلف مستوياته بوصفه إدراكاً مجتمعياً لا بوصفه إدراكاً نخبوياً فقط .. وهو الخطأ الذي يريد الكاتب إعادة إنتاجه وكأنه يعيش على هامش الحياة الاجتماعية . ومن ثم كان العودة إلى التاريخ لا من أجل الانكفاء عن الذات كي نستعيد الماضي الذي تجاوزه التاريخ ونكون كالمستجير من الرمضاء بالنار كما ذهب إلى ذلك الكاتب ، فحتى من بقي حياً من سلاطين ذلك العهد لا يطرحون مثل ذلك الحديث .. فالعودة إلى التاريخ هدفها إعادة ترتيب الوعي التاريخي لكي يتجاوز الناس المأزق الذي وجدوا أنفسنهم فيه . وهو منطق تاريخي عام ، وأضنك تعرف ذلك جيداً ، ومن ثم فالجنوب ليس بدعاً في اتجاهه نحو التاريخ في هذا الظرف العصيب
إن دعاة ترشيد الوعي التاريخي لا ينكرون ولا يمكن لهم أن يتنكروا بأن اليمن الجنوبية ثم الديمقراطية كانت اسماً لدولة الجنوب لأكثر من عقدين من الزمن ، وإن أي خطاب سواءً على مستوى الداخل أو الخارج لن يؤتي أُكله من غير تلك المظلة .. هذا أمر ثابت ولا ينكره أحد .. بل حتى بسطاء الناس يعبرون عن ذلك الموقف بعفوية من خلال رفع علم تلك الدولة .
أما لماذا يسترجع الناس اليوم مصطلح الجنوب العربي سواءً في خطاب المثقفين أو عند بسطاء الناس فأمر سنأتي عليه لاحقاً . ولكن ينبغي أولاً أن نميز هنا بين معنيين لليمن حتى لا ندخل متاهات وحدة الشعب والأرض وحتى نتمكن أيضاً من وضع النقاط على الحروف بطريقة منهجية .. فالأول اليمن بوصفه كيان طبيعي جغرافي أي دلالة جهوية وهو قديم ، أما الثاني فهو اليمن بوصفه كيان سياسي ورابطة وطنية وهو حديث . واليمن بالمعنى الأول يشمل مساحة جغرافية واسعة تشمل الشمال والجنوب ومساحات واسعة تتبع المملكة العربية السعودية غير عسير ونجران ، وأراضٍ أخرى تتبع سلطنة عمان ، بل هناك من المؤرخين من أدرج عمان في اليمن الطبيعية . أما اليمن بوصفه كيان سياسي ورابطة وطنية فهو اثنان إذا ما أخذنا اليمننة السياسية للجنوب و التي حدثت بعد الاستقلال بعين الاعتبار . وكان كل كيان من الكيانين قد أخذ تطور المستقل منذ قرابة ثلاثة قرون مضت بعد أن تخلص الجنوبيين من جور وظلم حكم الإئمة بوصفه آخر حكام الدول العائلية القروسطية التي امتد هيمنتها على مناطق الجنوب بين فترات مختلفة . ورفض هذه الحقيقة من قبل القوميين الكلاسكيين هو الذي أوصلنا إلى هذا الوضع المأزوم .
وكان التعبير المادي لذلك الرفض هو استحداثهم اسماً للدولة الجديدة من مرحلة أخذت مداها وتجاوزها التطور الاجتماعي ، مسمى لم يكن يحضر في الذاكر الجمعية غير أنه جزءً من الجغرافيا التاريخية للماضي فقط وبالذات في المناطق الشرقية مثل شبوة وحضرموت والمهرة . وهي ممارسات عكست مستوى الفوضى الثورية وقتئذٍ . لأن الأولى منطقياً كان الإبقاء على الاسم الذي استقر عليه ذلك الكيان في الكتابات التاريخية والسياسية وفي المحافل الإقليمية والدولية وقتئذ ، بوصفه الهوية السياسية والثقافية للجنوب . وهنا تم تغيير اسم احمد بيعقوب .
ولكن الأمر الملفت في كتابات الرجل هو عدم تميزه بين ثلاثة مستويات لمفهوم الجنوب العربي . إذ اتكأ على المفهوم السياسي ولم ير فيه غير اصطلاح ظهر قريناً للمشاريع الفيدرالية لإمارات الجنوب ، بل ويصف فهمه ذلك بأنه الحقيقة التي يمكن أن يدركها كل مبتدئ في قراءة التاريخ اليمني دون حاجة إلى عناء كبير ، حتى وصفه للجنوب العربي يأتي مضطرباً فتارة يصفه بالمفردة ! وتارة أخرى يصفه بالمصطلح ، بل ويذهب إلى أن التعاطي مع مصطلح الجنوب العربي ينم عن عشوائية في الثقافة السياسية . وغاب عنه أن الجنوب العربي هو أولاً اختصار لجنوب شبه الجزيرة العربية الذي حشره الكاتب في المفهوم الجغرافي فقط ، كما كان يأتي أيضاً مجرداً من الإضافة إي الجنوب فقط . ولم يدرك بأن هذا المفهوم الجغرافي كان قد أخذ مفهوماً اصطلاحياً منذ العقود الأولى للقرن المنصرم بوصفه الإقليم الذي عُرف بعدئذٍ بجنوب اليمن جاء ذكر ذلك في العديد من الكتابات السياسية والتاريخية ، فهذا المؤرخ صلاح البكري رحمه الله الذي صدرت له أولى الدراسات لتاريخية منذ ثلاثينات القرن المنصرم يصف في احد مؤلفاته جنوب الجزيرة بالصفة الاصطلاحية – الإقليم - لا بوصفه الجغرافي ، كما ورد الجنوب العربي عنده أيضاً بوصفه مُسمى لشعب ذلك الإقليم ، بل وعدّ أبناء حضرموت جزءً من ذلك النسيج ، وهي كتابات كانت قد ظهرت قبل مشاريع الفدرالية .
ونفس الرؤية تجدها عند المؤرخ محمد الشاطري الذي كتب مؤلفه قبل الاستقلال وغيرهم . فأين طرح الرجل من حقائق الواقع والتاريخ . وكان ذروة شطحه الإيديولوجي حين إدعاء بأن التاريخ لم يعرف أي كيان اسمه الجنوب العربي ، وهو مسمى لم يُكتب له الحضور في أي وثائق إقليمية أو دولية غير حضوره في وثائق المشاريع الفيدرالية للمستعمر البريطاني . حقيقة استغربت كثيراً بان يأتي مثل ذلك الحديث من ناشط سياسي ورجل صاحب درجة علمية مثل النقيب . لأن الجنوب العربي بمعناه الاصطلاحي كان معروفاً في المنظمات الإقليمية والدولية ، و حاضراً في وثائقها حضور الشمس في رابعة النهار ، فقد كان حاضراً بقوة في وثائق مؤتمرات القمم العربية الأول والثاني في العام 64 م وما تلاه من تواصل متعد الأوجه مع الأطراف الجنوبية كل ذلك كان يجري تحت مسمى قضية الجنوب المحتل ـ والجنوب هنا يُقصد به الجنوب العربي ـ كما سبق أن بينا .
ولعل أهم وثيقة تؤكد حضور الجنوب العربي في المحفل الإقليمي التهنئة التي بعث بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للرئيس قحطان الشعبي رحمهما الله غداة الاستقلال مهنئاً فيها شعب الجنوب العربي على الاستقلال . وقس على ذلك الحضور الدولي إذ حضر الجنوب العربي بوصفه اسماً لشعب كما جاء في القرار رقم 2023 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر من العام 1965 م عندما نص صراحة على حق شعب الجنوب العربي في تقرير مصيره . كما ورد كذلك بوصفه إقليماً محدداً من الناحية القانونية والسياسية وجاء ذلك في سياق قرار نفس المنظمة الدولية رقم 2183 الصادر في ديسمبر من العام 1966 م حين استعرض تأكيد الحكومة البريطانية بالقول بأن بريطانيا قد أكدت للمنظمة الدولية احترامها لوحدة أراضي الجنوب العربي . وقس على ذلك وثيقة الاستقلال .. أليست كلها وثائق دولية دامغة ؟
إذن نخلص مما ذكر أن الجنوب العربي مصطلح له دلالته التاريخية والسياسية والقانونية .. وهو الرابطة الاثنواجتماعية لأبناء الجنوب و عنواناً لهويتهم الثقافية في التاريخ الحديث .. وكان يحمل مضموناً إقليمياً محدد القسمات براً وبحراً معترف به إقليمياً ودولياً . وهو خلاصة لتطور المجتمع في الجنوب الذي أفضى إلى ظهور شعب الجنوب ، وهي حقيقة وجدت طريقها حتى في الأغاني الوطنية وقتئذٍ . وتبعاً لذلك فقد شكلت حقبة الجنوب العربي مرحلة مفصلية في تاريخ الجنوب الحديث ، حيث تشكلت فيها الهوية الثقافية والسياسية لإقليم الجنوب العربي .
إن الاختلاف الجاري اليوم حول مكانة الجنوب العربي في السياق التاريخي العام للجنوب من عدمه يمكن أن نفهمه اتجاهين .. الأول يريد إعادة الاعتبار لمرحلة مهمة من تاريخ الجنوب تم تغيبها عن عمد لمأرب إيديولوجية . وتيار آخر يبدو محدوداً لا زال متمسكاً بالخيارات الإيديولوجية الماضية لا يرى فيها غير مرحلة هامشية من تاريخ الجنوب بهدف إرباك المشهد الثقافي .. لأن الانحياز لأي من الجانبين يحدد في الأخير المنطلقات الأساسية في فهم القضية الجنوبية وأبعادها . فدعاة المرجعية الإيديولوجية يتنكرون لحضور الجنوب العربي في تاريخ الجنوب الحديث إدراكاً منهم بخطورته على أطروحة وحدة الأرض والشعب لما يمثله من معوق ثقافي لأنهم يرون في الجنوب شطر من شعب ووطن فقط – أي نصف - يكمله الشطر الآخر مع أن الآخر كان ينظر إلينا بوصفنا فرع لا شطر ، ومن ثم كان ذلك الالتفاف على تلك الفترة منذ مرحلة مبكرة وتصويرها كأنها مرحلة هامشية .
لذلك فهم لا ينظرون إلى أسباب القضية الجنوبية غير أخطأ سياسات – مظالم - مثلما يحصرها كاتبنا في سياسات صالح فقط . أما دعاة المرجعية التاريخية فيرون بأن مرحلة الجنوب العربي مرحلة مهمة في تاريخ الجنوب وهي مرحلة تشكل فيها شعب الجنوب ، وتجاهل الحقيقة التاريخية بأننا شعبين لا شعب هو ما أوقع الجنوب في هذا المأزق .. وتبعاً لذلك فان أي حلول لم تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة لن يُكتب لها النجاح .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق