الجمعة، 24 فبراير 2012

القَضيةُ الجنوبِية اليمنية.. قراءةٌ في سيكولوجيةِ الإنسانِ المقهور

نبيل سعيد مُطبِّق كاتب يمني
القدس العربي
ثمة انزعاج واضح، في الآونة الأخيرة، من جلجلة صوت القضية الجنوبية اليمنية في أرجاء ميادين الثورة الشبابية، حتى وصل الأمر إلى حدٍّ مزرٍ من الطرح، تعافه النفوس السويَّة.

إن صوت القضية الجنوبية، صوت مشروع، لا يقترن بإرادة قيادات أو شخصيات جنوبية بعينها، ولا تحدده أو تمليه توجهات سياسية معينة، صوت لا يميل إلى [الانفصال] كخيار استراتيجي مجلوب، ولحظة انفعالية، وفي الوقت ذاته، لا يحبذ [الاتصال] كـ كيانٍ مركزيٍ ممجوج، ونقطة استوائية.

إنما هو صوت متزن، صوت الإنسان البسيط المقهور في جنوب الوطن، المنكفئ على ذاته سنيناً وأعواماً، مواطناً من الدرجة الثانية.
من هذا الباب سندلف إلى سيكولوجية الإنسان الجنوبي المقهور بغرض استكناه ملامح تلك الشخصية، علَّ هذا الحديث عنها يسهم في تكوين رؤية معرفية ناضجة وجادة، لدى من يقصي ذلك الصوت، أو يحاول الانتقاص من مشروعيته.
وفي الطريق إلى ذلك سنسلط الضوء على مكونات إبستمولوجية أربع، تمثل إطار علمياً شاملا لدى علماء الأنثروبولوجيا النفسية الحديثة، لحظة تشخيصهم لـ سيكولوجيةِ الإنسانِ المقهور، وهي:
(الاستغلال، انعدام الكفاءة الاجتماعية، الجرح النرجسي، اضطراب الديمومة).
أولاً: استراتيجية استغلال الجنوب:
يعد علماء الأنثروبولوجيا النفسية، (الاستغلال) مكوناً أساسياً لـ تشكل الصبغة الانطباعية المعروفة بـ (القهر)، وارتباطها بحياة (الإنسان) المُستَغل المقهور، إذ أن مفهوم الاستغلال الاجتماعي، هو مربط الفرس في توليد القهر لدى عامة البشر عبر ثنائية (الظلم) و(الاستكانة).
ومع بروز الاستغلال تكون الحالة النفسية الإنسانية قد بلغت درجات عالية من التوتر الانفعالي، حتى يصل الأمر بالإنسان المقهور إلى درجة الغليان والانفجار، جراء دوامة الاستغلال التي تجرّع تبعاتها وتكبّد ويلاتها، المتسمة بالعنف.
وفي جنوب الوطن اليمني، يعد الاستغلال مربط الفرس لـ مضامين القضية الجنوبية، وصلب متنها البنائي، إذ هو العامل الأساس الذي تعزى إليه جلُّ السلبيات والمظاهر المتعلقة بجوهر الموضوع، فثمة مظاهر قارةٌ في ذاكرة المجتمع الجنوبي، جاءت نتاجاً حتمياً لهيمنة الاستغلال على نواحي الحياة المدنية العامة، لعل أبرزها ما يلي:
(المواطنة من الدرجة الثانية / خليك بالبيت / انفصالي/ الإحباط / ثقافة الكراهية / تدني مستوى الدخل / البطالة... الخ).
وهي مظاهر اتصلت - ولا تزال - بالعنف المباشر الممارس في الجنوب كـ: (الظلم / النهب / السلب / الإقصاء / سطوة العسكر على الحياة المدنية) وغيرها، جميعها دلالات وبصمات واضحة لـ مضامين القضية الجنوبية المشروعة.
ثانياً: انعدام الكفاءة الاجتماعية:
لا غرو، أن إنسان الجنوب اليمني عاش فترات ضوئية عصيبة، جاءت على خلفية تأثير مكونات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، معروفة، لا مجال لذكرها جميعاً، منها فترة (انعدام الكفاءة الاجتماعية) التي ارتبطت - لدى الإنسان الجنوبي - مباشرةً بمفهوم (المواطنة من الدرجة الثانية) الذي أسهم في تعزيز إرهاصات وتداعيات الشعور بالقهر لدى أبناء الجنوب اليمني.
وقد تمدد الفعل السالب لذلك المفهوم بشكل أفقي لدى المجتمع الجنوبي، وتجسد واقعاً، من خلال عدم المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية - كما يرى الجنوبيون - واختلال ميزان المساواة وميله عمداً نحو الطرف الآخر، فيما يخص النقاط الآتية:
(الوظيفة العامة / أراضي وعقارات الدولة / المنح الدراسية / أراضي الأوقاف / العمالة في القطاع النفطي/ العمالة في الشركات الباطنية ..الخ)
فما تم صرفه من مساحات الأراضي والعقارات، لغير الجنوبيين (مدنيين وعسكريين)، يفوق كثيراً ما صرف للجنوبيين أنفسهم، إذ لا مقارنة بين الأمرين، وعلى النقيض تماماً، لم يحصل يوماً صرف أراضٍ لجنوبيين في صنعاء وغيرها من المحافظات الشمالية.
أضف إلى ذلك أن ما يعتمد من خانات وظيفية للمحافظات الجنوبية، لا تخلو من الفساد وسوء الإدارة، حتى وصل الأمر إلى المتاجرة بالوظيفة العامة للدولة، والابتذال في منحها، بحيث يتمّ توظيف القادمين من شمال الوطن، على حساب الجنوب، ثم تغيير الاختصاص المكاني لهذه الخانات بما يتوافق مع محلّ إقامتهم في الشمال.
ناهيك عن التلاعب في نصيب الطلبة الجنوبيين من المنح الدراسية، وكذا إقصاء أبناء المحافظات الجنوبية من الحصول على فرص عمل في الشركات النفطية العاملة في مناطقهم، والمساهمة في الشركات المحلية العاملة من الباطن، على الرغم من التوجيهات الرئاسية المتتالية بهذا الشأن إن جُلَّ هذه المضامين السلبية، تعد نقاطاً جوهرية فاعلة، قامت بتكوين المتن البنائي للقضية الجنوبية، لذا يجب مواجهتها بجرأة ومسؤولية وطنية في هذا الظرف التاريخي الذي يمر به الوطن اليمني، بما يضمن إعادة النظر فيها ومحاسبة المتسببين في تفاقمها.
ثالثاً: الجرح النرجسي:
المقصود بالجرح النرجسي هنا، هو كل ما يحاول النيل أو الانتقاص من الكرامة الإنسانية، كـ الإهانة على سبيل المثال، فإن تنامي وتفاقم هذا الجرح النرجسي، يؤدي بالإنسان إلى مرحلة الشعور بالدونية، التي تنتابه بوصفها حصيلة لـ مرحلة انعدام الكفاءة الاجتماعية السالفة الذكر، وإذا ما سلطنا الضوء على جراح وكلوم إنسان الجنوب اليمني، سنلاحظ أن سيكولوجية الإنسان المقهور في هذه المرحلة ترتبط مباشرة بـ بالدوال اللفظية (العزة / الكرامة / القيمة / الهوّية) التي تم خدشها والمساس بها من لدن زمن لا يعترف إلاّ بالقوي آكلاً للضعيف، آناء الليل وأطراف النهار.
إذ أن المساس بالمعاني الدلالية لهذه العناصر المجسدة لجوهر الذات الإنسانية، يسبب خدشاً كبيرا، يسهم في تعزيز الشعور بـ الألم لدى شخصية الإنسان المقهور، لذا يلاحظ اكتساب هذه الدوال مكانة أساسية في خطاب الذات الإنسانية المقهورة، فعزة الإنسان وكرامته وقيمته مكونات جوهرية، لا تقبل المساومة أو التفريط.
وإذا يمَّمنا وجوهنا شطر الحق، سنقول: كم مرة مُسَّت عزة وكرامة الإنسان الجنوبي اليمني منذ العام 1994م، وكم شهد من مظاهر الإقصاء والتهميش، ليس من النظام المثخن بالأخطاء والفساد فحسب، بل من سلوكيات مجتمع بأكمله هيمنت عليه ثقافة المنتصر، والمحرر، والفاتح، لبلاد الشيوعيين العرب، تماماً كما يفعل الثوار اليوم.
لذا سيكون من الإجحاف وعدم الإنصاف تحميل النظام السياسي كل هذا الظلم والغبن الواقع على الجنوب أرضاً وإنسانا، وتأطير الموضوع في شخص فرد أو أسرة، وفي المقابل تبرئة أناس لعبوا أدواراً أساسية في الانقضاض على الضحية الجنوبية، بالدعوى والنجوى والفتوى.
رابعاً: اضطراب الديمومة:
تتلخص فكرة هذه النقطة في أن الزمن لدى شخصية الإنسان المقهور، جدلي وليس تسلسلياً جامداً، بمعنى أنه من غير الضروري أن يدور بنفس الاتجاه العام ( الماضي / الحاضر / المستقبل).
فالإنسان المقهور شخصية تضطرب ديمومتها بـ الانكفاء على الذات، واللجوء إلى استدعاء أيٍ من أبعاد الزمن الثلاثة ما دام كفيلاً بتحقيق العدالة الاجتماعية لذاته المكلومة.
وليست بعيدة عن ذلك ذوات أبناء الجنوب، اللذين تتقاذفهم اليوم زواياً، تتضخم فيها آلام الماضي، وتتأزم فيها معاناة الحاضر، وتختفي بينها آفاق المستقبل.
وأخيراً. نقول:
الجنوب نص مفتوح، ولا متناهي، في فضاء الوطنيّة والمدنيّة والسلميّة أيضاً، فلا تغلقوه.
هل أعجبك الموضوع:

ليست هناك تعليقات :