السياسي برس
امين اليافعي
عبدربه: كحل توافقي!
عبدربه منصور هادي هو جزء لا يتجزأ من النظام الذي خرج الجميع للمطالبة بسقوطه، وبحسب المنطق، وكما جرت العادة في كل البلدان التي قامت فيها ثورات، كان يجب أن يرحل مع رحيل رأس النظام. أما لماذا بقي؛ ولماذا تم اعتباره ممثلاً للجنوب دون وجه حق؟.. فكل تلك الأشياء تكمن في سرداب حكمة أخوتنا الشماليين الذي يبادرون دوماً إلى انتقاء لنا من يمثلوننا!
ما نفهمه نحن، أن اختيار عبدربه جاء من خارج الحوض التقليدي لصناعة الزعماء في اليمن (الشمال تحديداً)، ولم يكن ذلك الاختيار شغفاً في عبدربه، ولا لعبقريته الفذة، بل ليفك الاشتباك التاريخي الحاصل نتيجة غياب معايير وآليات انتقال السلطة، وهو، بشكل أو آخر، عملية مستمرة لإعادة إنتاج الإمام الهادي يحيى بن الحسين.
فقبل ثورة 26 سبتمبر، كان المذهب (الزيدي) هو من يتكفل بوضع هذه المعايير والآليات بشعاره الشهير والبسيط «أفضل من في البطنين» والذي جاء أساساً ليفك الاشتباك الأزلي بين مراكز القوى القبلية المتصارعة على السلطة. وبعد قيام الثورة، أصبحت القبيلة هي من يقوم على هذا الأمر، وهذا أمر طبيعي، بحكم أن السلطة تصنعها مراكز القوى والنفوذ. ومن يطالع مذكرات المشائخ (عبدالله بن حسين الأحمر، وسنان أبو لحوم... إلخ)، يكتشف كيف كان يتم اختيار وعزل الرؤساء في الشمال إلى الدرجة التي دعت أحد المهتمين البريطانيين بالشئون اليمنية إلى القول: « ظل عامل القوة هو العامل الرئيس في توزيع ثروات البلاد وخيراتها وليس خطط وبرامج التنمية والاحتياجات السكانية.. الخ . فالقبيلة الأقوى هي التي يحظى مشائخها بالنصيب الأوفر من السلطة والنفوذ والثروات والمغانم ويتمتع أبناؤها بالمناصب العسكرية والأمنية والمدنية تليها القبيلة الأدنى فالأدنى». وقد ظهرت أزمة "معايير وآليات" انتقال السلطة بقوة في السنوات الأخيرة الماضية بعد محاولة الرئيس صالح الاستئثار بها عن طريق تهيئة الأجواء لوصول أبنه أحمد.
ولا أدري، لماذا تصر بعض النُخب على اعتبار أن الحل الذي جاءت به المبادرة الخليجية إنجازاً يجب الاحتفاء به. ففي الحقيقة، مثّل مضمون هذا الحل ضربة قاصمة للعملية الديمقراطية ـ على زهدها ـ التي كان يمكن لها أن تفتح الطريق أمام التجمعات السكانية الكبيرة (كالمناطق الوسطى وتهامة) للوصول إلى غُرف صناعة القرار، والمشاركة فيه بصورة حقيقية وفاعلة، بدلاً من الوقوف في طابور مقدمي الخدمات. كما حفظ هذا الحل للقوى التقليدية كامل نفوذها ومراكزها وقواها المادية والمعنوية مما سيجعلها في صدارة العملية السياسية القادمة والعنصر الموجه للقرار؛ والتي كان يجب على الثورة أن تعمل على إزالتها ـ أي القوى التقليدية ـ وفك روابطها المتينة حتى يتم الانتقال إلى فضاء مختلف.
كتب الصديق محمد عسكر على الفيسبوك تعليقاً بعنوان "قصة بكاء ثورتين"، قارن فيه بين بكاء النائب أكرم الشاعر في البرلمان المصري الذي شرح ألم وحرقة أسر الشهداء من عدم سرعة محاكمة رموز النظام والقصاص منهم حتى قال في مشهدٍ مؤثرٍ: « لا نريد أن يأتي أحدٌ آخرٌ بعد ثلاثين سنة ليقول "قد فعلت بالشعب المصري كذا وكذا، ولكن لم يمسسني سوء"»، وبين بكاء باسندوة في البرلمان اليمني طلباً واستجداءً للموافقة على حصانة القتلة!.. وبين هاذين البكائين برزخٌ، ولا يمكن لهما أن يلتقيان، ويؤشران في بعدهما الرمزي العميق على الطريقة التي سيتم،من خلالها، الذهاب إلى المستقبل، وبمآلات مختلفة جذرياً.
إذا كان هناك مبررات خاصة قد دعت إلى اختيار النائب من قِبل الأخوة في الشمال، وجعله كحل توافقي، فلا توجد مثل هذه المبررات في الجنوب. فالرجل لا يملك أي شرعية، لا شرعية قانونية ـ عن طريق الانتخاب ـ ولا شريعة الإنجاز، ولو كان فيه ذرة من خيرٍ لأهله (وخيركم خيركم لأهله)، أو كان يملك من القرار شيئاً، لما دمرّت مسقط رأسه (أبين) تدميراً، أو حتى لسجل أبسط موقف يُذكر به!... فعلى أي أساس تم اعتباره ممثلاً للجنوب!
امين اليافعي
مدخل عام:
إن الخطاب، بحسب ميشيل فوكو، ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.
وفي كنف هذا المشروع "الصراعي" للوصول إلى السلطة، نستطيع أن نفهم (كجنوبيين) لعبة "تبادل الأدوار" التي يتناوب عليها النظام وبعض من رموز المعارضة في موقفهم من القضية الجنوبية. فالممسك بالسلطة يهاجم ويشتم ويُكفِّر، ويمارس سياسة "فرق تسد" الاستعمارية بكل فجاجة وعنف، والآخر يبدي تعاطفه وأسفه وألمه... وعندما تتغير المعادلة، تتغير الأدوار والأماكن تماماً بين عشية وضحاها! ولا غرابة إذن، أن يصبح منير الماوري كأحمد الصوفي، ويصبح أحمد الصوفي كمنير الماوري! ليتضح، في النهاية، أن أمر التعاطف لم يكن سوى أسلوب مهذب للنكاية بالآخر، وأن الأصل، في الأمر، هو السلوك الاستعماري عينه الذي يحاول أن يتأنق لبعض الوقت، بينما يكشر عن أنيابه معظم الوقت، ويتوارى كلياً البعد الوطني.
يطمئن الأخوة من دعاة الوحدة (القسرية) إلى أن العولمة التي تسير في اتجاه جعل العالم قرية واحدة، ووقوف "العمة" أمريكا ـ التي تدير الشأن اليمني حالياً عبر سفيرها في صنعاء ـ مع خيار الوحدة كفيلان لوحدهما باندثار الأصوات الانفصالية النشاز (حسب توصيفهم الشائع) مع الوقت، ولو اضطر الأمر لاستخدام القوة. لكن ما لم ينتبهوا إليه، أن العولمة ذاتها قد عملت على بعث أزمة الهويات بشكل لا نظير له، حيث عملت (وتعمل) على خلق مناطق ثقافية واقتصادية جديدة تتقاطع أحياناً مع حدود الدولة الوطنية لدرجة أن بعض المفكرين الغربيين باتوا يبشرون بعصر تكون فيه الدولة الوطنية "محض خيال" تحت ضغط العولمة، وهذا ما يفسر تخلي معظم الدول المتقدمة ـ وبعض من هذا الدول عمرها الزمني مئات السنين ـ عن النظام المركزي والذهاب في اتجاه منح الأقاليم مزيداً من السلطة. كما لم تفلح كل الخيارات التي دعمتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، وانقلبت بعضها إلى كارثة كالحالة العراقية. لا ننسى أن لاعبين دوليين كُثر دخلوا على خط الصراع، ومنهم إيران ( وروسيا والصين من وراءها)؛ في محاولة منها لنقل الصراع إلى منطقة أخرى بعدما ضاقت عليها الدائرة، واليمن حالة مثالية لذلك...
ما أردتُ قوله هنا، أن استقرار اليمن؛ لمن أراد ذلك، مرهون بحل القضية الجنوبية عن طريق استفتاء الجنوبيين على مشروع الوحدة في الدرجة الأولى على اعتبار أن وحدة 90م انتهت بالحرب، والرضوخ لما يقررونه بشأن ذلك. ولن تستطيع قوة السلاح حماية الوحدة وكما فعلت نظريتها (الولايات المتحدة الأمريكية) كما يؤمل المزايدون، فليس هناك محيطات تحتمي في حماها ـ أي الوحدة، وبعيداً عن القوى الخارجية المؤثرة.
وبالعودة إلى موضوع المقال، لم أكن أشأ، ومنذ البداية، أن أنخرط في موجة الجدل العقيم حول كتابات الأخ منير الماوري الأخيرة بشان الجنوب، وذلك لعدة أسباب: أولا، الأخ منير، في نظري على الأقل، لا يشكل ظاهرة معرفية وثقافية تستحق الالتفاتة، وهو صحفي نزق، لديه "فِخاخ" (محناب) يحاول أن يُفسر به أمور السياسية والتاريخ والاجتماع. وثانياً، يقيني أن مصائر الشعوب لا يمكن أن يحددها صحفي أو كاتب مهما بلغت شطارته، بقدر ما يحددها مستوى إيمان الشعب بقضيته. لذا فأنا أعتب كثيراً على كل من تفاعل ورد بطريقة خارجة عن حدود اللياقة.
لقد فتح النقاش، بشكلٍ عام، الباب أمام عدة قضايا مؤرقة، ومن المهم والمفيد الحديث حولها.
إن الخطاب، بحسب ميشيل فوكو، ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.
وفي كنف هذا المشروع "الصراعي" للوصول إلى السلطة، نستطيع أن نفهم (كجنوبيين) لعبة "تبادل الأدوار" التي يتناوب عليها النظام وبعض من رموز المعارضة في موقفهم من القضية الجنوبية. فالممسك بالسلطة يهاجم ويشتم ويُكفِّر، ويمارس سياسة "فرق تسد" الاستعمارية بكل فجاجة وعنف، والآخر يبدي تعاطفه وأسفه وألمه... وعندما تتغير المعادلة، تتغير الأدوار والأماكن تماماً بين عشية وضحاها! ولا غرابة إذن، أن يصبح منير الماوري كأحمد الصوفي، ويصبح أحمد الصوفي كمنير الماوري! ليتضح، في النهاية، أن أمر التعاطف لم يكن سوى أسلوب مهذب للنكاية بالآخر، وأن الأصل، في الأمر، هو السلوك الاستعماري عينه الذي يحاول أن يتأنق لبعض الوقت، بينما يكشر عن أنيابه معظم الوقت، ويتوارى كلياً البعد الوطني.
يطمئن الأخوة من دعاة الوحدة (القسرية) إلى أن العولمة التي تسير في اتجاه جعل العالم قرية واحدة، ووقوف "العمة" أمريكا ـ التي تدير الشأن اليمني حالياً عبر سفيرها في صنعاء ـ مع خيار الوحدة كفيلان لوحدهما باندثار الأصوات الانفصالية النشاز (حسب توصيفهم الشائع) مع الوقت، ولو اضطر الأمر لاستخدام القوة. لكن ما لم ينتبهوا إليه، أن العولمة ذاتها قد عملت على بعث أزمة الهويات بشكل لا نظير له، حيث عملت (وتعمل) على خلق مناطق ثقافية واقتصادية جديدة تتقاطع أحياناً مع حدود الدولة الوطنية لدرجة أن بعض المفكرين الغربيين باتوا يبشرون بعصر تكون فيه الدولة الوطنية "محض خيال" تحت ضغط العولمة، وهذا ما يفسر تخلي معظم الدول المتقدمة ـ وبعض من هذا الدول عمرها الزمني مئات السنين ـ عن النظام المركزي والذهاب في اتجاه منح الأقاليم مزيداً من السلطة. كما لم تفلح كل الخيارات التي دعمتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، وانقلبت بعضها إلى كارثة كالحالة العراقية. لا ننسى أن لاعبين دوليين كُثر دخلوا على خط الصراع، ومنهم إيران ( وروسيا والصين من وراءها)؛ في محاولة منها لنقل الصراع إلى منطقة أخرى بعدما ضاقت عليها الدائرة، واليمن حالة مثالية لذلك...
ما أردتُ قوله هنا، أن استقرار اليمن؛ لمن أراد ذلك، مرهون بحل القضية الجنوبية عن طريق استفتاء الجنوبيين على مشروع الوحدة في الدرجة الأولى على اعتبار أن وحدة 90م انتهت بالحرب، والرضوخ لما يقررونه بشأن ذلك. ولن تستطيع قوة السلاح حماية الوحدة وكما فعلت نظريتها (الولايات المتحدة الأمريكية) كما يؤمل المزايدون، فليس هناك محيطات تحتمي في حماها ـ أي الوحدة، وبعيداً عن القوى الخارجية المؤثرة.
وبالعودة إلى موضوع المقال، لم أكن أشأ، ومنذ البداية، أن أنخرط في موجة الجدل العقيم حول كتابات الأخ منير الماوري الأخيرة بشان الجنوب، وذلك لعدة أسباب: أولا، الأخ منير، في نظري على الأقل، لا يشكل ظاهرة معرفية وثقافية تستحق الالتفاتة، وهو صحفي نزق، لديه "فِخاخ" (محناب) يحاول أن يُفسر به أمور السياسية والتاريخ والاجتماع. وثانياً، يقيني أن مصائر الشعوب لا يمكن أن يحددها صحفي أو كاتب مهما بلغت شطارته، بقدر ما يحددها مستوى إيمان الشعب بقضيته. لذا فأنا أعتب كثيراً على كل من تفاعل ورد بطريقة خارجة عن حدود اللياقة.
لقد فتح النقاش، بشكلٍ عام، الباب أمام عدة قضايا مؤرقة، ومن المهم والمفيد الحديث حولها.
عبدربه: كحل توافقي!
عبدربه منصور هادي هو جزء لا يتجزأ من النظام الذي خرج الجميع للمطالبة بسقوطه، وبحسب المنطق، وكما جرت العادة في كل البلدان التي قامت فيها ثورات، كان يجب أن يرحل مع رحيل رأس النظام. أما لماذا بقي؛ ولماذا تم اعتباره ممثلاً للجنوب دون وجه حق؟.. فكل تلك الأشياء تكمن في سرداب حكمة أخوتنا الشماليين الذي يبادرون دوماً إلى انتقاء لنا من يمثلوننا!
ما نفهمه نحن، أن اختيار عبدربه جاء من خارج الحوض التقليدي لصناعة الزعماء في اليمن (الشمال تحديداً)، ولم يكن ذلك الاختيار شغفاً في عبدربه، ولا لعبقريته الفذة، بل ليفك الاشتباك التاريخي الحاصل نتيجة غياب معايير وآليات انتقال السلطة، وهو، بشكل أو آخر، عملية مستمرة لإعادة إنتاج الإمام الهادي يحيى بن الحسين.
فقبل ثورة 26 سبتمبر، كان المذهب (الزيدي) هو من يتكفل بوضع هذه المعايير والآليات بشعاره الشهير والبسيط «أفضل من في البطنين» والذي جاء أساساً ليفك الاشتباك الأزلي بين مراكز القوى القبلية المتصارعة على السلطة. وبعد قيام الثورة، أصبحت القبيلة هي من يقوم على هذا الأمر، وهذا أمر طبيعي، بحكم أن السلطة تصنعها مراكز القوى والنفوذ. ومن يطالع مذكرات المشائخ (عبدالله بن حسين الأحمر، وسنان أبو لحوم... إلخ)، يكتشف كيف كان يتم اختيار وعزل الرؤساء في الشمال إلى الدرجة التي دعت أحد المهتمين البريطانيين بالشئون اليمنية إلى القول: « ظل عامل القوة هو العامل الرئيس في توزيع ثروات البلاد وخيراتها وليس خطط وبرامج التنمية والاحتياجات السكانية.. الخ . فالقبيلة الأقوى هي التي يحظى مشائخها بالنصيب الأوفر من السلطة والنفوذ والثروات والمغانم ويتمتع أبناؤها بالمناصب العسكرية والأمنية والمدنية تليها القبيلة الأدنى فالأدنى». وقد ظهرت أزمة "معايير وآليات" انتقال السلطة بقوة في السنوات الأخيرة الماضية بعد محاولة الرئيس صالح الاستئثار بها عن طريق تهيئة الأجواء لوصول أبنه أحمد.
ولا أدري، لماذا تصر بعض النُخب على اعتبار أن الحل الذي جاءت به المبادرة الخليجية إنجازاً يجب الاحتفاء به. ففي الحقيقة، مثّل مضمون هذا الحل ضربة قاصمة للعملية الديمقراطية ـ على زهدها ـ التي كان يمكن لها أن تفتح الطريق أمام التجمعات السكانية الكبيرة (كالمناطق الوسطى وتهامة) للوصول إلى غُرف صناعة القرار، والمشاركة فيه بصورة حقيقية وفاعلة، بدلاً من الوقوف في طابور مقدمي الخدمات. كما حفظ هذا الحل للقوى التقليدية كامل نفوذها ومراكزها وقواها المادية والمعنوية مما سيجعلها في صدارة العملية السياسية القادمة والعنصر الموجه للقرار؛ والتي كان يجب على الثورة أن تعمل على إزالتها ـ أي القوى التقليدية ـ وفك روابطها المتينة حتى يتم الانتقال إلى فضاء مختلف.
كتب الصديق محمد عسكر على الفيسبوك تعليقاً بعنوان "قصة بكاء ثورتين"، قارن فيه بين بكاء النائب أكرم الشاعر في البرلمان المصري الذي شرح ألم وحرقة أسر الشهداء من عدم سرعة محاكمة رموز النظام والقصاص منهم حتى قال في مشهدٍ مؤثرٍ: « لا نريد أن يأتي أحدٌ آخرٌ بعد ثلاثين سنة ليقول "قد فعلت بالشعب المصري كذا وكذا، ولكن لم يمسسني سوء"»، وبين بكاء باسندوة في البرلمان اليمني طلباً واستجداءً للموافقة على حصانة القتلة!.. وبين هاذين البكائين برزخٌ، ولا يمكن لهما أن يلتقيان، ويؤشران في بعدهما الرمزي العميق على الطريقة التي سيتم،من خلالها، الذهاب إلى المستقبل، وبمآلات مختلفة جذرياً.
إذا كان هناك مبررات خاصة قد دعت إلى اختيار النائب من قِبل الأخوة في الشمال، وجعله كحل توافقي، فلا توجد مثل هذه المبررات في الجنوب. فالرجل لا يملك أي شرعية، لا شرعية قانونية ـ عن طريق الانتخاب ـ ولا شريعة الإنجاز، ولو كان فيه ذرة من خيرٍ لأهله (وخيركم خيركم لأهله)، أو كان يملك من القرار شيئاً، لما دمرّت مسقط رأسه (أبين) تدميراً، أو حتى لسجل أبسط موقف يُذكر به!... فعلى أي أساس تم اعتباره ممثلاً للجنوب!
الجنوب، وتاريخ ما قبل 90م
وحدهم الجنوبيون معنيون بإعادة تقييم تاريخهم، والوقوف على محطاته المختلفة، السلبية منها والإيجابية، وأخذ الدروس والعِبر. وهم، بالفعل، قد شرعوا، ومنذ سنواتٍ عدة، في عملية التقييم هذه، وتأتي دعوة "التصالح والتسامح" في صلب العملية، وكوعي ضاغط يقضي بضرورة إعادة النظر والتفكير بالإرث، وصياغة الذات بطريقة مفارقة.
ولا شك أن التجربة الجنوبية؛ وكأي تجربة إنسانية أخرى، شابتها الأخطاء، بل هناك أخطاء كبيرة اُرتُكِبَت، وهي عادة ملازمة لأي تغيير يبتغي التحول الجذري ودون مراعاة لحقائق ومعطيات الواقع. على أن هذه الحقيقة، لن تضع، وفي أي حال من الأحوال، الجنوبيين في شرنقة الإثم الأبدية، وتكون مبرراً إقصائياً لمنعهم من امتلاك قرارهم، وتحديد ذاتهم وهويتهم ومصيرهم بالطريقة التي يرغبونها.
فمنذ خلق الله الأرض ومن عليها، عاش هناك بشر على هذا الجزء من الأرض، وكباقي البشر، مروا بلحظات صراع وتنازع كجزء في عملية ضمان مواقع مميزة في توازن القوى. ومن غير المنطقي (والمقبول) أن تُحاكم مجمل سلوكيات شعب ما إلى لحظة مأساوية بعينها، لأن الغالب والأساس هو التعايش السلمي الذي استمر لآلاف السنين ( وإلا لكفرنا ـ تبعاً لهذا القياس "الشامت" ـ بكوننا مسلمين نتيجة ما حدث بين الصحابة والتابعين، وما فعله الحجاج وزياد بن أبيه وغيرهما حتى قال الشهرستاني وهو يروي تاريخ المذاهب والفرق: «ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة»!).
لقد حدثت أخطاء في دولة الاستقلال قبل الوحدة، بل وأخطاء كبيرة، لكن لن يمنعنا هذا الاعتراف من التسليم بأن الشعب في الجنوب كان في قرارة نفسه راغبٌ، بل ومصرٌّ على الذهاب في اتجاه واقع مفارق. ولعل أبسط الأمثلة (وهو مثال يتناسب مع طريقة اليمنيين في قياس عملية التغيير، إذ مللنا من ترديد الأمثلة حول التغييرات الجذرية التي طالت البنية الاجتماعية في الجنوب) وصول شخص إلى رأس السلطة من منطقة لم تعرف الحكم في تاريخها، وتمتعه بكامل نفوذه وصلاحياته، واقتصار أشعار وزوامل وشعارات المدح عليه دون سواه من القادة. بل، ووصل الأمر، أن كل الانقلابات التي حدثت كان تميل كفتها دائماً في صالح الطرف الذي يقف معه، حتى أحداث 86 كان جزء منها انتصاراً لقائد الحزب الروحي، وانتقاماً له، بينما كان يتم ـ في نفس الوقت ـ سحل الثوار ـ ومنهم الشهيد البطل عبدالرقيب عبدالوهاب ـ في شوارع صنعاء دون أن يهمس أحدهم اعتراضاً!!!..
وحدهم الجنوبيون معنيون بإعادة تقييم تاريخهم، والوقوف على محطاته المختلفة، السلبية منها والإيجابية، وأخذ الدروس والعِبر. وهم، بالفعل، قد شرعوا، ومنذ سنواتٍ عدة، في عملية التقييم هذه، وتأتي دعوة "التصالح والتسامح" في صلب العملية، وكوعي ضاغط يقضي بضرورة إعادة النظر والتفكير بالإرث، وصياغة الذات بطريقة مفارقة.
ولا شك أن التجربة الجنوبية؛ وكأي تجربة إنسانية أخرى، شابتها الأخطاء، بل هناك أخطاء كبيرة اُرتُكِبَت، وهي عادة ملازمة لأي تغيير يبتغي التحول الجذري ودون مراعاة لحقائق ومعطيات الواقع. على أن هذه الحقيقة، لن تضع، وفي أي حال من الأحوال، الجنوبيين في شرنقة الإثم الأبدية، وتكون مبرراً إقصائياً لمنعهم من امتلاك قرارهم، وتحديد ذاتهم وهويتهم ومصيرهم بالطريقة التي يرغبونها.
فمنذ خلق الله الأرض ومن عليها، عاش هناك بشر على هذا الجزء من الأرض، وكباقي البشر، مروا بلحظات صراع وتنازع كجزء في عملية ضمان مواقع مميزة في توازن القوى. ومن غير المنطقي (والمقبول) أن تُحاكم مجمل سلوكيات شعب ما إلى لحظة مأساوية بعينها، لأن الغالب والأساس هو التعايش السلمي الذي استمر لآلاف السنين ( وإلا لكفرنا ـ تبعاً لهذا القياس "الشامت" ـ بكوننا مسلمين نتيجة ما حدث بين الصحابة والتابعين، وما فعله الحجاج وزياد بن أبيه وغيرهما حتى قال الشهرستاني وهو يروي تاريخ المذاهب والفرق: «ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة»!).
لقد حدثت أخطاء في دولة الاستقلال قبل الوحدة، بل وأخطاء كبيرة، لكن لن يمنعنا هذا الاعتراف من التسليم بأن الشعب في الجنوب كان في قرارة نفسه راغبٌ، بل ومصرٌّ على الذهاب في اتجاه واقع مفارق. ولعل أبسط الأمثلة (وهو مثال يتناسب مع طريقة اليمنيين في قياس عملية التغيير، إذ مللنا من ترديد الأمثلة حول التغييرات الجذرية التي طالت البنية الاجتماعية في الجنوب) وصول شخص إلى رأس السلطة من منطقة لم تعرف الحكم في تاريخها، وتمتعه بكامل نفوذه وصلاحياته، واقتصار أشعار وزوامل وشعارات المدح عليه دون سواه من القادة. بل، ووصل الأمر، أن كل الانقلابات التي حدثت كان تميل كفتها دائماً في صالح الطرف الذي يقف معه، حتى أحداث 86 كان جزء منها انتصاراً لقائد الحزب الروحي، وانتقاماً له، بينما كان يتم ـ في نفس الوقت ـ سحل الثوار ـ ومنهم الشهيد البطل عبدالرقيب عبدالوهاب ـ في شوارع صنعاء دون أن يهمس أحدهم اعتراضاً!!!..
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق