يكفى أن تزور مدينة عدن بعد أحداث الخميس الدامى فى مهرجان تنصيب الرئيس التوافقى عبده ربه هادى حتى تُدرك أن شرخا عميقا أصبح فى قلب كل جنوبى وامتد إلى ما يشبه جدار خرسانى يفصلهم عن كل ما كان يربطهم يوما بالوحدة وصوت الفنان أحمد قاسم، وهو يتغنى منذ الأزل بهذا الحلم الذى أصبح وجعا يُدمى كل يوم بالرصاص والموت وقنابل الغاز المسيل للدموع.....
والاعتقال والضرب وترحيل الناشطين لسجون صنعاء دون تهمة سوى أنهم يريدون العدالة.هذا الجُرح الناتئ الذى يذكرك بخذلان صديق غرس السكين فى عنقك ليُفهمك بأنه الأقوى. هذا الجُرح المفتوح والمُتقيح ستدركه فى حجم الكراهية لكل ما هو شمالى سواء كان انسانا بسيطا شاءت الأقدار أن يسكن فى الجنوب منذ أربعينيات القرن المنصرم أو كاتبة مثلى مرت عبر شوارع عدن لترصد صور الموت والغضب والخوف والخذلان. هذا الغضب الذى لا لون له يتصاعد الآن فى قلب أبناء الجنوب كحرائق زمن جديد لم تتغير. هذا الغضب الحزين ستسمعه فى أحاديث البُسطاء وفى القنوات والمواقع وصفحات فيس بوك وبيانات القادة وفى كل لفحة هواء قادمة من بحر لم يعد ساكنا كما كان قبل.
أحداث الخميس الدامى الذى سقط فيه عشرات القتلى والجرحى على يد قوات الأمن دون مبرر سوى الإصرار على صناعة صنم جديد على مقاس الرئيس هادى ورفع أعلام الوحدة التى اصبحت تستفز كل طفل جنوبى. ساعات قليلة بعد تلك الأحداث حتى امتد الغضب إلى عدد من المدن الجنوبية التى شهدت أعمال عنف ضد أبناء الشمال تدخل فيها طرف ثالث أراد إشعال فتنة أهلية كحادثة إحراق المواطن محمد غالب ذى الأصول الشمالية فى سيئون وغيرها من أعمال العنف التى تصاعدت بشكل هستيرى. كانت كل هذه الأحداث الخارجة عن السيطرة هى الخط الذى شطر صورة اليمن الموحد إلى شطرين. شطر شمالى لم تسعفه الثورة فى بناء دولة مدنية صادرها شيوخ القبائل ورجال الدين وجنرالات الحرب وهو يحاول بكل ما أوتى من قوة الإمساك فى عنق الجنوب كقشة تنقذه من الغرق وشطر جنوبى أدار ظهره لكل النوايا الشمالية التى لم تعد طيبة بالنسبة له، وظل يستحلب بلذة أحلام المجد الذى فُقد فجأة.
كانت هذه هى الصورة الحقيقية التى اختزلتها المتغيرات المتسارعة فى الجنوب من غضب شعبى كان يغلى على نار هادئة منذ حرب صيف 94م الظالمة حتى انفجر بركان الغضب بعد الأحداث الأخيرة. هذه الصورة نفسها التى حاول نظام صالح انكارها على مدى سنوات طويلة عبر ماكينة إعلامية تُخون كل من رفع صوته ضد قتل أبناء الجنوب. هذه الصورة التى حاول الجنوبيين أيضا تجميلها عبر محاولات عديدة للتمسك بالوحدة عبر مشاريع ومقترحات عديدة لإصلاح مسارها المختل أو المطالبة بتحسين شروط حياة الجنوبيين الذين استمروا ورغم كل الانتهاكات بالحفاظ على بيت الوحدة الزجاجى من الكسر.
•••
بدأ الغضب الشعبى فى الجنوب فى عام 2007م، وظهر ما سُمى بالحراك السلمى الذى كانت أهدافه مطلبيه وحقوقية فى أول الأمر إلا أن استخدام نظام صالح للورقة العسكرية وملاحقة ناشطين الجنوب واعتقالهم جعل الحراك يتجه وبإرادة شعبية شبه موحدة نحو مطلب سياسى واحد وهو فك الارتباط مع الشمال لكن أثناء الثورة الشعبية التى انطلقت فى 2011م خفت دعوات فك الارتباط كمحاولة من قيادات الجنوب لفهم متغيرات الأحداث فى ساحات الشمال وكان الجنوبيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم متناغمين مع أهداف الثورة المطالبة بإسقاط نظام صالح ومحاكمته. لكن خيبة الجنوبيين من مسارات الثورة اليمنية جعلتهم يعيدون قراءة الواقع السياسى خاصة بعد توقيع المبادرة الخليجية التى رفضتها جميع الساحات الثورية إلا أن الجنوب كان أقوى فى تعبيره عن رفض المبادرة، واضحا فى تحديد سقف مطالبه بإدانة كل أركان نظام صالح بمن فيهم الجنرال على محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى المدرع واليد الطولى فى نظام صالح والمشارك فى قتل الجنوبيين الذى انظم إلى الثورة وأصبح حاميا لها. لم يفهم قادة المعارضة المنقسمون فى صنعاء رفض الجنوبيين للمبادرة التى أعطت الحصانة لصالح وأبقت على أركان نظامه عبر تسوية سياسية قد تنقذ الشمال لكنها تسوية ظالمة للجنوب، لم يحاول هؤلاء القادة وبدافع حسن النية إشراك القادة الجنوبيين فى تصويب المبادرة الخليجية باعتبارهم شركاء طبيعيين فى الوطن الموحد.
عندما جاء عبدربه هادى إلى الحكم لم يقم بإزالة كل ما تسبب به حكم صالح من أذى وقهر وشعور بالظلم وإرسال رسالة تطمأن أبناء الجنوب بأن النظام السياسى فى اليمن الموحد قد تغير وأن العدالة يمكن ان تتحقق بقليل من الصبر والحكمة. لم يكن الرئيس التوافقى حكيما فيما يخص القضية الجنوبية بل كانت سياسته لا تختلف عن سياسة سلفه صالح والتى تمثلت بعدد من الإجراءات المهدئة كإرضاء القادة الجنوبيين المواليين وتعينهم فى مناصب رفيعة أو الاكتفاء بقيادات حزب الإصلاح الجنوبيين واعتبارهم ممثلين لحل القضية الجنوبية. وحينما كانت هذه الأدوات لا تجدى مع قادة الحراك الجنوبى على الأرض كان الرئيس هادى يلجئ إلى استخدام خطاب فوقى والتلويح بالقوة عبر استدعاء رُعاة المبادرة الخليجية والمبعوث الأممى جمال بن عمر للاستقواء على مشروعهم الذى يجدونه حقا انسانيا فى التحرر من سلطة شمالية ما زالت تعاملهم بقسوة، وأخيرا استهلك الرئيس هادى قرار مجلس الأمن الذى جعل على سالم البيض قائد فصيل من فصائل الحراك الجنوبى مُعرقلا للتسوية، ومهددا إياه بالعقوبات كورقة ضغط لفرض سياسة الأمر الواقع متناسيا أن الغليان الجنوبى قد جاوز حدود الفنجان وأصبح يسيح على الأرض.
•••
لم يتغير مشهد العنف بالجنوب بمجىء رئيس جنوبى بل للأسف استمرت آلة القتل المنظمة وحملات التحريض عبر وسائل إعلامية تابعة لحزب الإصلاح المنظم للثورة وأخرى تابعة لحزب على عبدالله صالح، وتنامت حملة المداهمات الليلية وقتل أبرياء عزل كما حدث للشهيدة فيروز التى قتلت فى بيتها فى 22 أكتوبر 2012 فى منطقة حى البساتين عبر مداهمة خاطئة لقوات الأمن على بيتها وغيرها من الحوادث القتل الاستفزازى والتى لم يأمن منها صحفيو الجنوب كما حدث للصحفى وجدى الشعيبى التى تبنت وزارة الدفاع عملية قتله بالإضافة لحملة الاعتقالات المستمرة ضد ناشطين الحراك.
جاءت الأحداث الأخيرة لتتبرز القوى المتصارعة فى الجنوب فما بين الحراك السلمى على اختلاف طوائفه إلى حزب الاصلاح الذى أراد الآخر اشعال حربه غير المقدسة فى الجنوب لفرض أجندته فى الحوار الوطنى، مستعرضا القوة فى الإصرار على إقامة مهرجان التنصيب، وفى رأيى أن هذا الفعل الذى قام به حزب الإصلاح ليس إيمانا جوهريا بالوحدة بقدر ما هو قناعته المستميتة لوراثة نظام صالح جاعلا من نفسه ممثلا شرعيا للوحدة كما كان يفعل حزب صالح «المؤتمر الشعبى» وفرض الوحدة بالدم.
•••
المشهد الآن فى اليمن يشبه إلى حد كبير المشهد السودانى عشية استقلال الجنوب مع بعض الاختلافات الطفيفة، وللأسف لم تستفد القيادات السياسية المتعاقبة فى اليمن من درس السودان بل استمروا فى إنهاك الجنوب وجعله ساحة حرب لاستعراض القوة كلما انسد الأفق السياسى فى صنعاء.
وهنا علينا أن نتساءل: ماذا سيحدث مستقبلا فى الجنوب فى غضون الأشهر المقبلة؟ هل سيستمر مسلسل الدم الجنوبى أمام غياب إرادة سياسية فى صنعاء تخفف الضغط على الساحة الجنوبية وتتلمس بحذر مشاعر ابناء الجنوب المستفز من وحدة الغلبة؟ أيام ويعقد الحوار الوطنى الذى لن يكون عصى سحرية لحل مشاكل الجنوب أمام تعنت حزب الإصلاح والقوى التابعة لصالح والذى سيؤدى حتما إلى فك الارتباط كحل أخير لوقف نزيف الدم بين الإخوة الاعداء واحتدام حرب أهلية فى الجنوب، فالوحدة ماتت فى قلوب الجنوبيين، كما قال لى صاحب المقهى العجوز فى منطقة المنصورة وهو يمنحنى علم دولة الجنوب المستقل كتذكار طيب بين شعبين كان يوما واحدا وفرقته الأحقاد.
كاتبة وروائية من اليمن
كاتبة وروائية من اليمن
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق