إياد الشعيبي
عدن الغد
عدن الغد
ربما للمراقب عن كثب ممن لا يعلم ولا يدرك خبايا تفاصيل الإنسان في اليمن الشمالي وموروثه السياسي والثقافي والمجتمعي وحتى الثوري وتقيده المتجذر بالكثير من القيم المجتمعية (المُزمنة) سلباً وإيجاباً ، سيندهش كثيرا .. حينما يطالع أخبار "الربيع العربي" في اليمن ، وقد اتفق فيه المجرم والضحية ، والقاتل والمدافع عن حقوق القتلة ، والحاكم المستبد مع الخصم السياسي المعارض ، والطاغية مع الثائر ، على اختيار شخص عبدربه منصور هادي كمرشح توافقي وحيد وفي عملية سياسية أسموها "انتخابات" يدعو الجميع لإنجاحها .!
أن يتفق الرئيس اليمني علي عبد الله صالح "مجرم الحرب" و "الطاغية" و "المستبد" و "القاتل" و "المخلوع" مع "الثائرة" و "المناضلة" و "القائدة" الحائزة على جائزة نوبل للسلام "توكل كرمان " على اختيار شخص هادي مرشحا ، ويشددان بذات الوقت على انتخابه هو بالفعل أمر يثير الغرابة والدهشة وعدم الاستيعاب .!!
ربما سيتسائل الكثير .. هل صحّ ضمير الرئيس صالح وعاد إلى رشده .. أم فسد ضمير توكل ونكث بعهده ووعده ؟؟
وصالح هو الرئيس الذي اندلعت ثورة الشباب اليمنية - والتي تمثل كرمان أحد قادتها ومفجريها - من أجل إسقاط نظامه واجتثاث كل رموزه بمن فيهم عبدربه منصور هادي (الخليفة الرسمي لصالح، والوريث الشرعي للثورة) ..!
لن أعرج هنا على مواقف السيدة توكل شديدة اللهجة من قانون الحصانة والمحاكمة وتجميد الأرصدة بحق صالح وأركانه، ومن خطب الوعيد والتهديد التي خِيلت للمتابع أن لا عاصم لصالح من كرمان - فما توكل إلا مثال - ، فمثلها فعل الكثير من شباب الساحات ومن أطلقوا على أنفسهم صفة "الثوار" وجملة من مثقفيهم وسياسييهم ..!
غياب النضج
لكن ما يهمني هو توضيح جزئية خطيرة لا تزال متجذرة في العقلية السياسية الجمعية لدى غالبية الفرقاء في الساحة اليمنية ومواقفها "المتفقة" تجاه الجنوب قضية وشعب وأرض وهوية وإنسنا وإن اختلفت فيما سواها.
وخطورة ذلك تكمن ليس فحسب في أنها جعلت من كل هذا النفاق السياسي والتحالف الذي يعيد إنتاج أدواته وبذات الفكر والمنهج القديم الجديد لقوى الحكم الشمالي في مرحلة ما بعد الانقلاب على ثورة الشباب اليمنية 2011، سلاحا احتلاليا توسعيا استعماريا تجاه الجنوب وقضيته ، بل تكمن أيضا في أن الاستمرار في إعادة إنتاج ذات الفكر والمفهوم - القبلي - العسكري - الديني التحالفي في معالجة الأزمات والقضايا يمثل استمرار خطيرا في إحراق المنطقة وإنتاج الحروب والكوارث وتكريس لكل قيم التخلف والجريمة والانحطاط الفكري والإنساني للدولة والنظام لعقود قادمة من الزمن ، تكمن خطورتها على الإنسان اليمني نفسه وتحول دون إنتاج التغيير المنشود .
مع أني وغيري الكثير ندرك أن مرحلة النضج الثوري والسياسي والتغييري لدى الكثير من أخوتنا من ثوار اليمن ومثقفيه لم تصل بعد مستواها الذي تتطلبه المرحلة واللحظة التاريخية التي مرت بها اليمن ، وإلا ما الذي يجعل من شيخ قبلي شره ورجل دين متطرف وقائد عسكري متوحش وحاكم مستبد يختطفون ثورة شعب بأكمله ، ويفصّلونها على مقاسهم باسم الثورة ؟ ، فلا نظام صالح سقط .. بل لا يزال شريكا أساسيا في الحكم وبقوة ، ولا حُوكِم القتلة .. بل مُنِحُوا الحصانة ، ولا اختار الناس رئيسهم .. بل فُرض عليهم هادي فرضا ، مهما حاول المنمقون قول غير ذلك وأقنعوا أنفسهم بخلافِه..!
أنا وغيري الكثير من ابناء الجنوب كنا نأمل أن تنتصر ثورة الأشقاء في اليمن ، وأن يتم اجتثاث نظام علي عبد الله صالح من الجذور ، وأن تسقط أركان وأعمدة القبيلة التي استمرأت استعباد اليمنيين لعقود بل لقرون من التاريخ .. وأن يتحرر الإنسان في اليمن من ضعفه وتبعيته وانقياده واستمراره في الخضوع الغير مبرر للشيخ القبلي أو للقائد العسكري أو لفلان أو علان من أصحاب البأس والسطوة والسلطة والنفوذ ، ويشرع في بناء دولته الحديثة ، ويعيد التفكير في معالجة كل الأزمات من جذورها.
لأن ذلك كان بلا شك سيدفع المواطن اليمني أن يكون مساهما حقيقيا في معالجة قضية أشقائه في الجنوب الذين يطالبون اليوم باستعادة دولتهم "المحتلة" منذ العام 94 بعد الانقلاب على مواثيق ومعاهدات دولة الوحدة من قبل نظام الجمهورية العربية اليمنية ، واعتبار ما وراء هذا التاريخ - بالذات - هو مرحلة زاخرة بالفشل السياسي وفترة أثبتت فيها الأزمات العاصفة والكوارث المتتالية وضحايا القتل والفساد والمحسوبية وأعمال النهب والسلب والبسط وتدمير الإنسان وهويته وتاريخه أن استمرار التعامل مع الجنوب بعقلية المنتصر في 94 هو استمرار لمزيد من الكوارث لكلي الشعبين ومستقبلهما وللمنطقة ككل.
جني تعرفه
يقول الصحفي اليمني محمد الخامري في برنامج ساعة حرة على قناة الحرة الأمريكية أمس الأحد أن صالح "حريص على استقرار اليمن" في رده على سؤال المذيع عن توحد خطاب صالح وشباب الثورة في الدعوة لانتخاب هادي ، في الوقت الذي حمّل الخامري صالح تبعات حكمه لثلاثة وثلاثين عاما .. فكيف يصبح الثعلب واعضا ؟ ، يبرر السيد الخامري بالقول "صُلحٌ اعوج ولا شريعة سمحاء" - مثل يمني - ، في صورة تجسد المقولة المشهورة للشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر "جني تعرفه ولا إنسي ما تعرفه" وهي المقولة الشهيرة التي قالها أثناء انتخابات الرئاسة عام 2006 ، الأمر الذي يجعل الطقس المقبل بعد الربيع اليمني مخيفا جدا بل ملبدا يحمل نُذُر خطرة تجاه الجنوبيين ..!
شقٌ آخر .. لماذا يُصرُ حزب الإصلاح الحاكم والمشترك ورموزهما على فرض الانتخابات اليمنية في الجنوب بالقوة ، وهم يدركون ما تعنيه هذه الانتخابات من إصرار على ممارسة الاحتلال وتجاوز لإرادة الغالبية الساحقة من أبناء الجنوب المطالبين بالاستقلال أو في الحدود الدنيا "تقرير مصيرهم".!
لماذا يصر السياسي والمثقف اليمني على التمسك في وحدة زائفة ، أثبت الواقع فشلها تماما ، وأصبح الحل المنطقي هو عودة كل دولة لشعبها ، على اعتبار أن ما دون ذلك يعني المزيد من الصراعات والأزمات والحروب ، وهذا ما اثبته واقع ما بعد حرب صيف 94.
إذا كان الشعب الجنوبي لا يريد البقاء في هذا الواقع .. فهل من الحكمة - وإن دعمتها كل دول الإقليم وأوروبا وأمريكا ، ونظّر لها الدكتور ياسين نعمان ومحمد القباطي وعلي الصراري ومحمد قحطان - فرض البقاء في هذا الواقع هو الحل لتفادي كارثة احتقان الشعب الجنوبي وتبعات ذلك على اليمن والإقليم؟؟
إذا كان الشعب الجنوبي لا يريد البقاء في هذا الواقع .. فهل من الحكمة - وإن دعمتها كل دول الإقليم وأوروبا وأمريكا ، ونظّر لها الدكتور ياسين نعمان ومحمد القباطي وعلي الصراري ومحمد قحطان - فرض البقاء في هذا الواقع هو الحل لتفادي كارثة احتقان الشعب الجنوبي وتبعات ذلك على اليمن والإقليم؟؟
إن عدم وصول السياسي اليمني والمثقف اليمني والثائر اليمني - بمنأى عن التفكير الفيدي والتسلطي والتوسعي وبمنأى عن التحالفات الخارجية - لمرحلة استيعاب الجنوبي الآخر وقضيته ، وفهم الحقائق للواقع السياسي في الجنوب منذ ما بعد حرب صيف 94 باعتباره - أي الجنوب - يقع تحت الاحتلال ومن حق الشعب هناك تقرير مصيره ، هو وأد حقيقي لكل القيم الثورية والإنسانية ، بل يمثل ذلك مانعا حقيقيا أمام بناء الدولة اليمنية المدنية المرجوة في الشمال على اعتبار أن واقع الأزمات سيستمر وأن "جني" الأحمر سيضل رئيسا ، حتى وإن كان ذلك عقب انتزاع الشعب الجنوبي لأرضه ودولته ، والتي هي آتية لا ريب فيها..!!
* صحفي ومذيع في قناة عدن لايف
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق