فواز طرابلسي
جريدة المدى العراقيةبالدم تعمدت الذكرى الثانية
والعشرون لإعلان الوحدة اليمنية في ٢٢ أيار ١٩٩٠. لا أقل من مئة ضحية بين قتيل
وجريح حصدها التفجير الانتحاري المنسوب إلى تنظيم القاعدة وسط وحدات عسكرية تتدرّب
في صنعاء على العرض العسكري المزمع تنظيمه بالمناسبة. أما في الطرف الثاني من
البلاد، فاحتفال بمناسبة نقيضة هي إعلان «فك الارتباط »
بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية
العربية اليمنية الذي أعلنته القيادة الجنوبية خلال ما سمّي «حرب الوحدة والانفصال»
بين شطري اليمن يوم ٢٢ أيار ١٩٩٤. إحياء لهذه المناسبة، تظاهرات صاخبة لقوى «الحراك
الجنوبي» من حضرموت إلى عدن ولحج تعرّضت للقمع بالرصاص من قبل القوى الأمنية
والعسكرية ومسلحي «التجمع اليمني للإصلاح»
لعل أكبر مفارقة بين شطري اليمن منذ نيل الجنوب استقلاله، وتوحيده أواخر العام ١٩٦٧ هو التناوب على مدى عقدين من الزمن بين الشطرين على حروب حدودية ومحاولات نظام إسقاط النظام الآخر لا تلبث أن تنتهي باتفاقيات وحدة. لا أقل من خمس اتفاقيات للوحدة بين التوأمين اللدودين قضت أولاها الموقعة في تعز أواخر ١٩٧٠ بإقامة اتحاد فيدرالي. ونشب أول اقتتال حدودي عام ١٩٧٤ انتهى بتوقيع اتفاقيتين للوحدة في القاهرة وطرابلس تلتهما ثالثة في الجزائر في أواخر العام. وجاءت المحاولة الجادة لتحقيق الوحدة بين البلدين مع استيلاء اللواء إبراهيم الحمدي على الحكم في صنعاء العام ١٩٧٤. قضى على التقارب الشديد بين البلدين اغتيال الحمدي يوم ١١ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٧عشية زيارة له إلى عدن لتوقيع اتفاقية وحدة مع الجنوب. توترت العلاقة بين الشطرين جراء اغتيال الحليف الشمالي. ردّ الجنوب بالضلوع في اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، الذي خلف الحمدي والمتهم باغتياله، بمعاونة علي عبدالله صالح. خسرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رئيسين لأسباب تتعلّق بالشمال والوحدة. الرئيس سالم ربيع علي، الذي جرى تحميله المسؤولية عن اغتيال الغشمي وتنفيذ الإعدام به. والرئيس عبد الفتاح إسماعيل الذي جرى تحميله المسؤولية عن محاولة إسقاط النظام الشمالي بواسطة حملة عسكرية داخل الأراضي الشمالية في العام ١٩٧٩. عارض الحلفاء السوفيات الحرب وقطعوا إمداد السلاح عن حلفائهم الجنوبيين، وانتهى الأمر باتفاق الكويت بين الرئيسين عبد الفتاح إسماعيل وعلي عبدالله صالح، والعودة إلى المشاريع التوحيدية. وسوف يزاح عبد الفتاح إسماعيل عن رئاسة الحزب والدولة بعد أشهر من الحدث.
تضافرت ثلاثة عوامل على الدفع أخيرا باتجاه الوحدة: حرب التصفية بين أجنحة الحزب الاشتراكي اليمني في ١٣ يناير/ كانون الثاني ١٩٨٦؛ انهيار الاتحاد السوفياتي؛ واكتشاف حقل نفط كبير على الحدود بين البلدين وضعهما معا أمام امتحان الوحدة أو الاقتتال مجددا. مع ذلك، تم الاتفاق على الوحدة بارتجال شديد كاد أن يتلخص في اتفاق شفوي بين الأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض والرئيس علي عبدالله صالح على وحدة اندماجية فورية. عارضت العربية السعودية المشروع الوحدوي وعرضت تغطية ديون اليمن بديلا عن السوفيات. لكن التصويت في المكتب السياسي أصرّ على الخيار الوحدوي. في المقابل، كان للوحدة راعيان: صدام حسين عربيا والولايات المتحدة المتحدة دوليا، وقد رأت الأخيرة في الوحدة تصفية للنظام الماركسي العربي الوحيد الحليف للاتحاد السوفييتي.
لم تعمّر التجربة الوحدوية أكثر من أربع سنوات. تصورها الجنوبيون مناصفة للسلطة والقرار بين حزبين حاكمين، المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، كان مطلعها قيام مجلس رئاسي تمثّل فيه الطرفان وتسليم الرئيس السابق للجنوب رئاسة الوزراء، وحضور وازن ومتوازن للجنوبيين في الوزارات والإدارة والقيادة العسكرية. فيما رأي علي عبدالله صالح في الوحدة لا أكثر من عودة الجنوب - «البريطاني» تارة و«الشيوعي » تارة أخرى - إلى بيت الطاعة. وجاءت الانتخابات النيابية في نيسان ١٩٩٣ لتحوّل الحزب الاشتراكي اليمني إلى طرف ثانوي في السلطة الجديدة إذ نال ٩٦ من أصل ٣٠١ من مقاعد المجلس النيابي.
شكك القادة الجنوبيون في النتائج وقرروا العودة إلى عدن رافضين المشاركة في الحكومة. ولعل أبرز حدث دفع علي عبد الله صالح إلى الحسم العسكري هو توقيع القوى السياسية الرئيسية في الشطرين على «وثيقة العهد والاتفاق » برعاية الملك حسين في عمان، التي استقوى بها معارضو علي عبدالله صالح الشماليون للنص على تقليص صلاحيات رئيس الدولة شبه المطلقة، وتعزيز المؤسسات المنتخبة ودولة القانون وتوسيع الحريات وحمايتها وبناء دولة حديثة. رفض علي عبدالله صالح تنفيذ الوثيقة وسارع إلى إعلان الحرب على الجنوب في نيسان ١٩٩٤ بعد أن استجلب الآلاف من الأفغانيين العرب ليشكلوا وقودها، برعاية أمير السلفيين الوهابيين في اليمن الشيخ عبد المجيد الزنداني، وقيادة اللواء علي محسن الأحمر، اليد العسكرية اليمنى لعلي عبدالله صالح. وفي ٢٠ أيار أعلن نائب رئيس اليمن الموحد علي سالم البيض فك الارتباط بين البلدين. دعمت العربية السعودية الانفصال الجنوبي وأوحت بإمكانية استصدار قرار من الجامعة العربية بإرسال قوة ردع عربية لوقف الاقتتال تسهم في تثبيت الحدود بين الشطرين لصالح استعادة اليمن الديمقراطية الشعبية حدودها والسيادة. أو هكذا فهم الجنوبيون وأملوا فخاب ظنّهم. انتصر جيش الشمال ودخل عدن في ٧ تموز ١٩٩٤.
إن قصة «الحراك الجنوبي » هي قصة الكيفية التي بها تعاطى نظام صنعاء مع الجنوب بعد النصر العسكري بمنطق المنتصر والمهزوم. ساد التمييز بين شمالي وجنوبي. جرى تسريح عشرات الألوف من العسكريين والموظفين الأمنيين والإداريين الجنوبيين. وطغت الإدارة المركزية على المحافظات الجنوبية. وساد الفساد والمحسوبية في توزيع الأراضي والعقارات والشقق والمؤسسات والمصانع المؤممة وخدمات الشركات النفطية على الأسرة الحاكمة وحاشيتها القريبة. وأهمل مرفأ عدن، المفترض أنها العاصمة الاقتصادية للبلد الموحد.
بدأ الحراك الجنوبي عام ٢٠٠٧ بمطالب متواضعة هي إعادة عشرات الألوف من الموظفين والعسكريين المطرودين إلى العمل أو التعويض عليهم وتطبيق اللامركزية الإدارية التي طالما تشدقت بها صنعاء. وكما هي العادة في كل هذه الحالات تدحرجت كرة ثلج أمام تعنّت النظام في صنعاء وقمعه المتصاعد، لترتفع أصوات تطبل للانفصال بعد عامين من بدء الحراك. خبا المطلب بعض الشيء مع انطلاق الثورة عام ٢٠١١ فيما انضوى قسم من الشباب الجنوبي في الحراك الثوري، على عكس زعماء الحراك الذين توزعوا بين من اعتبر أن مصير علي عبدالله صالح «مسألة شمالية» لا تخصّ الجنوب، وبين من كان يعتقد بأن بقاء علي عبدالله صالح هو أصلح حال بالنسبة للقضية الجنوبية.
عاد الحراك بقوة أكبر مع تطبيق المبادرة الخليجية التي أعفت علي عبدالله صالح من أي محاسبة شرط التنحي لنائبه، وغلّبت تشكيل الحكومة والاستفتاء على الرئيس الأوحد، على البحث في عوامل الأزمة الملتهبة: الحراك الجنوبي، الحركة الحوثية، الثورة في تعزّ، كبرى المحافظات ومركز الصناعة اليمنية، وأخيراً وليس آخراً شباب الثورة في كل مكان الطامحين إلى بناء يمن جديد في نظام سياسي واجتماعي حديث وديمقراطي. تم ذلك كالعادة باسم أولوية الهمّ الأمني بعد أن أفاد تنظيم «القاعدة» من الفراغ الحاصل لابتناء قواعد له في المحافظات الجنوبية والتصعيد الدموي لعملياته الإرهابية.
لقد سقطت «المركزية التقسيمية» وقاعدتها صنعاء مع خلع علي عبدالله صالح. والمشهد اليمني هو الآن مشهد من النوازع الجهوية النافرة من المركز يحتاج إلى إعادة تركيب على أسس جديدة.
تتحمل الحكومة في صنعاء، والولايات المتحدة والسعودية وجماعة المبادرة الخليجية من ورائها، المسؤولية الأبرز على تعميق حالة التفكك وعلى العمل على وأد القوى الحية للشعب اليمني متمثلة بشبابه الثائر. والاهم أنها تتحمل المسؤولية التاريخية عن عدم مدّ اليد لإشراك قوى الاعتراض والاحتجاج كافة في القرار السياسي منذ اللحظات الأولى لتنحي الرئيس السابق. ولكن يجب القول في الآن ذاته إن هذا الاستبعاد ليس يبرّر بأي حال لجوء الحركة الحوثية وبعض قادة الحراك الجنوبي إلى إيران على أمل الاستقواء بها لتحصيل الحقوق والمطالب على الأرض اليمنية. تدلّ الدروس الأليمة لقوى سبقت اليمنيين إلى الاستقواء بالخارج على الأشقاء في الداخل مدى الفشل والخسران، حتى لا نقول الكوارث، التي تنطوي عليها تلك المغامرات المكتوب لها الفشل الذريع.
في مواجهة انهيار المركزية التقسيمية، لا مجال إلا الاعتراف بضرورة إعادة صياغة كيانية تستدعي لا انتهاء التمييز بين اليمنيين، وتعميم المساواة بينهم في المواطنة، والقبول بالتعددية، وتوسيع قاعدة الحياة السياسية والحريات العامة، ولكن الأهم والأعجل هو استفتاء مكونات الشعب اليمني على الشكل الأنسب للحكم الذي يرتئيه لنفسه. ويمكن أن يتخد هذا الاستفتاء طابعا وطنيا عاما أو محليا، حسب الظروف والحاجات.
والمؤكد أن ترجمة ذلك المبدأ في حالة المحافظات الجنوبية هو الإقرار بحق الأهالي في استفتاء شعبي برعاية عربية ودولية يقررون فيه نمط ارتباطهم بسائر أجزاء اليمن. إن ربط مصير المسألة الجنوبية بالنزاع السعودي-الإيراني في المنطقة، وعلى المنطقة، قد يعني تأجيل البتّ فيها إلى ما لا نهاية، أو هو قد يؤدي إلى أن تذهب قضية الجنوب «فرق عملة» عندما يتفق الطرفان. فالصدام والتنافس ليس بالضرورة المآل الحتمي للعلاقة بينهم.
لعل أكبر مفارقة بين شطري اليمن منذ نيل الجنوب استقلاله، وتوحيده أواخر العام ١٩٦٧ هو التناوب على مدى عقدين من الزمن بين الشطرين على حروب حدودية ومحاولات نظام إسقاط النظام الآخر لا تلبث أن تنتهي باتفاقيات وحدة. لا أقل من خمس اتفاقيات للوحدة بين التوأمين اللدودين قضت أولاها الموقعة في تعز أواخر ١٩٧٠ بإقامة اتحاد فيدرالي. ونشب أول اقتتال حدودي عام ١٩٧٤ انتهى بتوقيع اتفاقيتين للوحدة في القاهرة وطرابلس تلتهما ثالثة في الجزائر في أواخر العام. وجاءت المحاولة الجادة لتحقيق الوحدة بين البلدين مع استيلاء اللواء إبراهيم الحمدي على الحكم في صنعاء العام ١٩٧٤. قضى على التقارب الشديد بين البلدين اغتيال الحمدي يوم ١١ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٧عشية زيارة له إلى عدن لتوقيع اتفاقية وحدة مع الجنوب. توترت العلاقة بين الشطرين جراء اغتيال الحليف الشمالي. ردّ الجنوب بالضلوع في اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، الذي خلف الحمدي والمتهم باغتياله، بمعاونة علي عبدالله صالح. خسرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رئيسين لأسباب تتعلّق بالشمال والوحدة. الرئيس سالم ربيع علي، الذي جرى تحميله المسؤولية عن اغتيال الغشمي وتنفيذ الإعدام به. والرئيس عبد الفتاح إسماعيل الذي جرى تحميله المسؤولية عن محاولة إسقاط النظام الشمالي بواسطة حملة عسكرية داخل الأراضي الشمالية في العام ١٩٧٩. عارض الحلفاء السوفيات الحرب وقطعوا إمداد السلاح عن حلفائهم الجنوبيين، وانتهى الأمر باتفاق الكويت بين الرئيسين عبد الفتاح إسماعيل وعلي عبدالله صالح، والعودة إلى المشاريع التوحيدية. وسوف يزاح عبد الفتاح إسماعيل عن رئاسة الحزب والدولة بعد أشهر من الحدث.
تضافرت ثلاثة عوامل على الدفع أخيرا باتجاه الوحدة: حرب التصفية بين أجنحة الحزب الاشتراكي اليمني في ١٣ يناير/ كانون الثاني ١٩٨٦؛ انهيار الاتحاد السوفياتي؛ واكتشاف حقل نفط كبير على الحدود بين البلدين وضعهما معا أمام امتحان الوحدة أو الاقتتال مجددا. مع ذلك، تم الاتفاق على الوحدة بارتجال شديد كاد أن يتلخص في اتفاق شفوي بين الأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض والرئيس علي عبدالله صالح على وحدة اندماجية فورية. عارضت العربية السعودية المشروع الوحدوي وعرضت تغطية ديون اليمن بديلا عن السوفيات. لكن التصويت في المكتب السياسي أصرّ على الخيار الوحدوي. في المقابل، كان للوحدة راعيان: صدام حسين عربيا والولايات المتحدة المتحدة دوليا، وقد رأت الأخيرة في الوحدة تصفية للنظام الماركسي العربي الوحيد الحليف للاتحاد السوفييتي.
لم تعمّر التجربة الوحدوية أكثر من أربع سنوات. تصورها الجنوبيون مناصفة للسلطة والقرار بين حزبين حاكمين، المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، كان مطلعها قيام مجلس رئاسي تمثّل فيه الطرفان وتسليم الرئيس السابق للجنوب رئاسة الوزراء، وحضور وازن ومتوازن للجنوبيين في الوزارات والإدارة والقيادة العسكرية. فيما رأي علي عبدالله صالح في الوحدة لا أكثر من عودة الجنوب - «البريطاني» تارة و«الشيوعي » تارة أخرى - إلى بيت الطاعة. وجاءت الانتخابات النيابية في نيسان ١٩٩٣ لتحوّل الحزب الاشتراكي اليمني إلى طرف ثانوي في السلطة الجديدة إذ نال ٩٦ من أصل ٣٠١ من مقاعد المجلس النيابي.
شكك القادة الجنوبيون في النتائج وقرروا العودة إلى عدن رافضين المشاركة في الحكومة. ولعل أبرز حدث دفع علي عبد الله صالح إلى الحسم العسكري هو توقيع القوى السياسية الرئيسية في الشطرين على «وثيقة العهد والاتفاق » برعاية الملك حسين في عمان، التي استقوى بها معارضو علي عبدالله صالح الشماليون للنص على تقليص صلاحيات رئيس الدولة شبه المطلقة، وتعزيز المؤسسات المنتخبة ودولة القانون وتوسيع الحريات وحمايتها وبناء دولة حديثة. رفض علي عبدالله صالح تنفيذ الوثيقة وسارع إلى إعلان الحرب على الجنوب في نيسان ١٩٩٤ بعد أن استجلب الآلاف من الأفغانيين العرب ليشكلوا وقودها، برعاية أمير السلفيين الوهابيين في اليمن الشيخ عبد المجيد الزنداني، وقيادة اللواء علي محسن الأحمر، اليد العسكرية اليمنى لعلي عبدالله صالح. وفي ٢٠ أيار أعلن نائب رئيس اليمن الموحد علي سالم البيض فك الارتباط بين البلدين. دعمت العربية السعودية الانفصال الجنوبي وأوحت بإمكانية استصدار قرار من الجامعة العربية بإرسال قوة ردع عربية لوقف الاقتتال تسهم في تثبيت الحدود بين الشطرين لصالح استعادة اليمن الديمقراطية الشعبية حدودها والسيادة. أو هكذا فهم الجنوبيون وأملوا فخاب ظنّهم. انتصر جيش الشمال ودخل عدن في ٧ تموز ١٩٩٤.
إن قصة «الحراك الجنوبي » هي قصة الكيفية التي بها تعاطى نظام صنعاء مع الجنوب بعد النصر العسكري بمنطق المنتصر والمهزوم. ساد التمييز بين شمالي وجنوبي. جرى تسريح عشرات الألوف من العسكريين والموظفين الأمنيين والإداريين الجنوبيين. وطغت الإدارة المركزية على المحافظات الجنوبية. وساد الفساد والمحسوبية في توزيع الأراضي والعقارات والشقق والمؤسسات والمصانع المؤممة وخدمات الشركات النفطية على الأسرة الحاكمة وحاشيتها القريبة. وأهمل مرفأ عدن، المفترض أنها العاصمة الاقتصادية للبلد الموحد.
بدأ الحراك الجنوبي عام ٢٠٠٧ بمطالب متواضعة هي إعادة عشرات الألوف من الموظفين والعسكريين المطرودين إلى العمل أو التعويض عليهم وتطبيق اللامركزية الإدارية التي طالما تشدقت بها صنعاء. وكما هي العادة في كل هذه الحالات تدحرجت كرة ثلج أمام تعنّت النظام في صنعاء وقمعه المتصاعد، لترتفع أصوات تطبل للانفصال بعد عامين من بدء الحراك. خبا المطلب بعض الشيء مع انطلاق الثورة عام ٢٠١١ فيما انضوى قسم من الشباب الجنوبي في الحراك الثوري، على عكس زعماء الحراك الذين توزعوا بين من اعتبر أن مصير علي عبدالله صالح «مسألة شمالية» لا تخصّ الجنوب، وبين من كان يعتقد بأن بقاء علي عبدالله صالح هو أصلح حال بالنسبة للقضية الجنوبية.
عاد الحراك بقوة أكبر مع تطبيق المبادرة الخليجية التي أعفت علي عبدالله صالح من أي محاسبة شرط التنحي لنائبه، وغلّبت تشكيل الحكومة والاستفتاء على الرئيس الأوحد، على البحث في عوامل الأزمة الملتهبة: الحراك الجنوبي، الحركة الحوثية، الثورة في تعزّ، كبرى المحافظات ومركز الصناعة اليمنية، وأخيراً وليس آخراً شباب الثورة في كل مكان الطامحين إلى بناء يمن جديد في نظام سياسي واجتماعي حديث وديمقراطي. تم ذلك كالعادة باسم أولوية الهمّ الأمني بعد أن أفاد تنظيم «القاعدة» من الفراغ الحاصل لابتناء قواعد له في المحافظات الجنوبية والتصعيد الدموي لعملياته الإرهابية.
لقد سقطت «المركزية التقسيمية» وقاعدتها صنعاء مع خلع علي عبدالله صالح. والمشهد اليمني هو الآن مشهد من النوازع الجهوية النافرة من المركز يحتاج إلى إعادة تركيب على أسس جديدة.
تتحمل الحكومة في صنعاء، والولايات المتحدة والسعودية وجماعة المبادرة الخليجية من ورائها، المسؤولية الأبرز على تعميق حالة التفكك وعلى العمل على وأد القوى الحية للشعب اليمني متمثلة بشبابه الثائر. والاهم أنها تتحمل المسؤولية التاريخية عن عدم مدّ اليد لإشراك قوى الاعتراض والاحتجاج كافة في القرار السياسي منذ اللحظات الأولى لتنحي الرئيس السابق. ولكن يجب القول في الآن ذاته إن هذا الاستبعاد ليس يبرّر بأي حال لجوء الحركة الحوثية وبعض قادة الحراك الجنوبي إلى إيران على أمل الاستقواء بها لتحصيل الحقوق والمطالب على الأرض اليمنية. تدلّ الدروس الأليمة لقوى سبقت اليمنيين إلى الاستقواء بالخارج على الأشقاء في الداخل مدى الفشل والخسران، حتى لا نقول الكوارث، التي تنطوي عليها تلك المغامرات المكتوب لها الفشل الذريع.
في مواجهة انهيار المركزية التقسيمية، لا مجال إلا الاعتراف بضرورة إعادة صياغة كيانية تستدعي لا انتهاء التمييز بين اليمنيين، وتعميم المساواة بينهم في المواطنة، والقبول بالتعددية، وتوسيع قاعدة الحياة السياسية والحريات العامة، ولكن الأهم والأعجل هو استفتاء مكونات الشعب اليمني على الشكل الأنسب للحكم الذي يرتئيه لنفسه. ويمكن أن يتخد هذا الاستفتاء طابعا وطنيا عاما أو محليا، حسب الظروف والحاجات.
والمؤكد أن ترجمة ذلك المبدأ في حالة المحافظات الجنوبية هو الإقرار بحق الأهالي في استفتاء شعبي برعاية عربية ودولية يقررون فيه نمط ارتباطهم بسائر أجزاء اليمن. إن ربط مصير المسألة الجنوبية بالنزاع السعودي-الإيراني في المنطقة، وعلى المنطقة، قد يعني تأجيل البتّ فيها إلى ما لا نهاية، أو هو قد يؤدي إلى أن تذهب قضية الجنوب «فرق عملة» عندما يتفق الطرفان. فالصدام والتنافس ليس بالضرورة المآل الحتمي للعلاقة بينهم.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق