صلاح محمد العمودي
القضية الجنوبية ستحل آجلا أم عاجلا وبأيدي الجنوبيين فقط وبالطريقة التي يريدون دون أن يملي عليهم احد شروطه أو يحدد لهم مستقبل مصيرهم ولا اعتقد أن هناك خلافا بينهم حول فكرة الإجماع وضرورة الدفاع عنها ولا يوجد من لديه الاستعداد أن يلدغ من جحري الحكم الشمولي والوحدة المزيفة مرة أخرى بعد أن تشتت حالهم وحال وطنهم ثم أن أوضاع اليوم اختلفت وأصبحت تمثل نقيض الأمس الذي اكتوى بناره الجميع, والوقت لم يعد مناسبا لكتم الأنفاس ومصادرة الآراء وإنما لحث الخطى باتجاه خلق أجواء ملائمة لتقريب وجهات النظر وهي الفيصل في نجاح جلوس الجنوبيين مع بعضهم البعض لحل قضيتهم واسترداد وطنهم وإسعاد شعبهم .
القضية الجنوبية مأساة وطن وشعب ,راح ضحية التمترس خلف أيديولوجيات وتعقيدات المرحلة التي نال فيها استقلاله من الاستعمار البريطاني , فوقع منجز الاستقلال الذي وحد أكثر 22 مشيخة وإمارة في دولة واحدة, رهينة صراعاتهم الجانبية التافهة التي أودت بهم إلى الوقوع فريسة لاحتلال أكثر تخلفا وهمجية.
اتسم ذلك الصراع بالعنف الشديد لإقصاء الرأي الأخر بدء من أعداء ((يا سلام ثوري على جيش شعبي)) وتلاهم جماعة ((بسم الله وبسم الشعب وبسمك يا قحطان الشعبي أول رئيس اخترناه)) ثم لحق بهم جماعة ((سالمين نحن أشبالك وأفكارك لنا مصباح)) وجاء الدور فيما بعد على جماعة((حزبك باقي يا فتاح حزب العامل والفلاح)) إلى أن وصلنا إلى الزمرة والطغمة حتى اكتشفوا في نهاية المطاف أن المشكلة ليست في هذه المجموعة أو تلك وإنما في استحالة التعايش فيما بينهم فقرروا إنزال عقوبة الإقصاء على أنفسهم جميعا وعلى الوطن كله بشعبه وأرضه فانتزعوه من على الخارطة وألحقوه بالشمال وسلموه لقمة سائغة على طبق من ذهب لمن لا يستحق ,فتلقف الشماليون خبر تضحية الجنوبيين بوطنهم وشعبهم بفرحة تاريخية على إيقاعات البرع لا يمكن أن ينسوها أو يتخلوا عنها مثلما تخلوا عن صورة السيد البيض في واقعة رفع العلم,ولأنهم قوم لا يضيعون الوقت, سرعان ما احضروا الشوكة والسكين لاقتسام الكعكة كل حسب نفوذه ومكانته على أنغام نشيدهم الوطني ((مالنا إلا علي ))ولم يصحو الجنوبيون إلا على دمار وخراب لم يشهدوا له مثيلا أكل اليابس قبل الأخضر .
ومن المؤلم جدا أن الجنوب سلم للشمال مرتين في المرة الأولى سلما عام 1990 على إيقاعات نشيد وهم الوحدة ,وفي الثانية حربا عام 1994 وتصدرها مع الأسف بعض الذين نالت منهم مراحل الإقصاء في الجنوب حيث وجدوا أنفسهم وقد وحدتهم راية ما لنا إلا علي الذي ادخرهم للثأر من أبناء جلدتهم ,وفي الحالتين الضحية الجنوب أرضا وإنسانا .
الجنوب ,هذه البقعة من العالم أتاها الغزاة من اتجاهات عدة على امتداد التاريخ القديم والحديث ,قطعوا آلاف الأميال وجابهوا المخاطر والأهوال نظرا لسمعتها الجغرافية المتميزة وتفردها بمزايا طبيعية عن مناطق أخرى من العالم فجعلوها قبلتهم وأفرطوا في قدسية اغتصابها حتى ينتزعوا ثواب عطاياها التي لا تنضب ,هكذا ظل حالها مع الغزاة لسنوات وعقود من الزمن يمتصون خيراتها وينهبون ثرواتها ويسرحون ويمرحون وينهون ويأمرون ,لكن عندما آل أمرها لأبنائها بعد طردهم لأخر مستعمر قبل 44عاما من الآن, لم يروا فيها أكثر من ساحة حرب يقيمون عليها احتفالات صراعاتهم الاقصائية التي تطرفوا فيها أكثر مما يحتمل, إلى أن قضوا على كل شي ((الاستقلال والوطن والشعب )) فمات منهم من مات وتشتت منهم من تشتت في ارض الغربة والاغتراب لقاء تشتيتهم بوطنهم وشعبهم تلاحقهم لعنات أخطائهم التي توالت حتى أتت جريمة يناير 86 لتمهد لخطأ تاريخي لا يغتفر الحق الجنوب أرضا وإنسانا بعصر التخلف والاستبداد الذي أنكر عليهم حتى جنسيتهم واعتبرهم من بقايا اسر وافدة من دول أخرى, وحول ارض شريكه في الوحدة إلى وطن ممزق ومنهوب, لم تبقى فيه قطعة منتمية للجنوب.
هذه مع الأسف مأساة الجنوب أرضا وإنسانا بدأت ببطولات وتضحيات عظيمة ضد المستعمر من اجل الاستقلال وانتهت بمؤامرات وتصفيات مؤلمة أعادت الاحتلال فبعد إن أشاد بهم العدو قبل الصديق على الطريقة التي أداروا بها صراعهم المسلح ضد الاستعمار البريطاني بشجاعة نادرة فشلوا منذ الوهلة الأولى في إدارة بناء الدولة المستقلة وانصاعوا لنزوات صراعاتهم التي تتحمل القسط الأوفر في قرع طبول حرب ((الحق معي)) بين رفاق سلاح التحرير الذي خاضوه معا وأفكارهم شتى لتدخل البلد بعد ذلك في نفق تدهور أوضاعها إلى إن وصلت إلى ما هي عليه اليوم ,والضحية الشعب والوطن.
خلاصة القول إن ما جاء أعلاه لن يصبح من الماضي حتى نستخلص منه حلا للحاضر الذي يتوق له كل أبناء الجنوب ,ففي ظل أجواء ثورات الربيع العربي التي تدك عروش الطغاة وتؤسس لمرحلة انتزاع الشعوب لحقوقها واستعادة حريتها وكرامتها فانه على الجنوبيين أن يتجاوزوا ترهات ماضيهم وآفاته إن أرادوا اللحاق بالركب وإلا فان الثالثة ثابتة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق