الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

اليمن: 12 الف سنة حرب وانجلز مرّ من هنا

الكاتب العراقي:عبدالمنعم الاعسم

اليمن: 12 الف سنة حرب وانجلز مرّ من هنا

ما يجري في اليمن حرب تخوضه هذه البلاد ضد نفسها. حرب تكتب، هذه المرة، بيد مجهولين فيما للحروب اليمنية السابقة عناوين موصولة باسماء ذات رنين. بلقيس. الامام علي . عبدالناصر. اما الحكام فسرعان ما يتطايرون.
رحيل حكام اليمن عن السلطة هو تاريخ اليمن الحقيقي، من بلقيس ملكة سبأ حتى علي عبدالله صالح الذي اعد نفسه ليكون ملكا واعد ابنه لكي يصبح وريثا له. ففي القرآن، كما في السير الشعبية أو انتباهات المؤرخين، لم تنعم اليمن باستقرار الا ونزلت عليها نازلة الفتن، ولم تنصرف الى البناء الا وأغارت عليها الفيضانات والاعاصير والدوامات، وكانت الدورات الكونية قد منـّت عليها بجنتين "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم" ودفعت بهم بعد ذلك الى اقتحام القارات المجهولة، من أدنى الأرض الى أقصاها ليشقوا البحار والبراري في رحلات اسطورية "قالوا ربنا باعد بين اسفارنا فظلموا انفسهم وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق" .


علينا ان نعرف بان الازمات اليمنية الدورية تنطلق من نقطة غامضة ثم لا تلبث ان تشغل العالم بوصفها قدرا أو كابوسا، لكأن الهدهد لا يزال يخاطب سليمان حتى اليوم بالآية الكريمة من سورة النمل “أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بخبر يقين” بل ان فريدريك انجلز سجل ــ عن اليمن ــ منذ أكثر من مائة عام في رسالة الي كارل ماركس انه كان يكفي ان تنشب حرب مدمرة واحدة حتي يتم اخلاء البلد من سكانه، ووصف ما يحدث من اضطرابات غامضة هناك بالقول ان تدميرا مباشرا وعنيفا يجري الى درجة لا يمكن تفسيره الا بالغزو الحبشي.
وفي كتابه رحلة اثرية الى اليمن رصد الدكتور أحمد فخري امجاد اليمنيين اذ فرضوا سيطرتهم على خط القوافل التجارية من الجوف الى الشام، كما انهم فرضوا ثقافتهم وابداعاتهم الصناعية والحياتية في زمن كانت الامم تغط في ظلام دامس الامر الذي عبرت عنه آثار مدن قرنو وقتبانو ووائل حتى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث شيدت مملكة سبأ العريقة التي عرفت اعرق ديمقراطية في مجالس المشورة والجدل، وتمثل نقوشها الآن مفاتيح معارف للدخول الى مغاليق تاريخ الشرق وفصوله الأكثر مثاراً للجدل حيث انهارت المملكة اليمانية الاولى تحت سنابك خيول الممالك المجاورة، ورحل ملوك وجاء ملوك غيرهم.
كان ذلك قبل اثني عشر سنة من الآن. وليس مبالغة في اجماع المؤرخين على ان الظاهرة السبئية من حيث الصعود الى المجد والهبوط الى الخراب استمرت في حقب التاريخ اليمني باشكال مختلفة حتى تحولت هذه البلاد العريقة الى حكمة بالغة الدلالة، فثمة لديها جواب لأي سؤال.. ولديها دواء لكل داء، ولديها حرب لكل سبب.
هذا في الماضي.. أما في الحاضر.. غداة القرن العشرين.. فقد أخذت اليمن سلاحها الى اعالي الجبال، ومن هناك بدأت باطلاق النار كلما وجدت له مبررا، وفي عهد انشطارها الى الشمال والجنوب خاضت ثلاث حروب أهلية تحت شعار توحيد الأرض وانهاء التشطير.. وحربا رابعة بلا شعارات محددة، عناوينها الارهاب واختطاف السياح وحرية التعبير وانهاء الامبراطوريات القبائلية وترويض الغزال الجنوبي لضمه الى العائلة اليمنية التي طالما ارهقها الحنين الى مملكة سبأ المهيبة الجانب، وها هي تدخل حربها الخامسة: جمهورية وراثية في خندق وشعب ثائر في خندق.
في أيلول (سبتمبر)من عام 1972 اندلعت الحرب اليمنية(المعاصرة) الاولى بين الشمال والجنوب.. الشمال الذي انضم الى نادي الانقلابات الجمهورية منذ أقل من عقد من السنين، والجنوب الذي احرز استقلاله من الانتداب البريطاني قبل خمسة اعوام وأقام جمهورية كان قد لملم اجزاءها مما يزيد على عشرين من السلطنات والمشايخ المتناثرة والمتناحرة.
وفي البداية، اثارت هذه الحرب السؤال المبكر عما يريده اليمنيون حقا، وذلك مع استيقاظ صبوات نائمة منذ آلاف السنين: دولة قبائلية. امهرية. عروبية. اشتراكية. ناصرية. ملكية. جمهورية. جمهورية وراثية. خليجية..الخ.
في الشمال كان القاضي عبد الرحمن الارياني (رئيس المجلس الجمهوري) يدير، مع الشيخ أحمد النعمان، لعبة الحكم والوحدة، بمهارة سياسية في التعامل مع منتديات الرأي والسياسة والمقايل وطبقة كبار الضباط، وبأقل حذر مع المؤسسة القبلية وجماعة الضباط الصغار الذين اعيتهم الصراعات السياسية مع الاشباح. وفي هذا المحذور زلت قدم القاضي الايرياني في الثالث عشر من حزيران(يونيو) عام 1974 لكي يرحل الى خارج اللعبة و(البلاد) كلها، ولكن بعد ان حضر بنفسه حفل افتتاح عهد الحروب مع الجنوب تحت شعار اقامة الوحدة وانهاء عهد التشطير، وهو الشعار الذي انتهى الى برك دماء لا اول لها ولا آخر .
وليس من قبيل الصدف ان تندلع حرب 1972 من (قعطبة) التي تقع على حدود الشطرين الشمالي والجنوبي وتحتفظ بسجل طويل من الاحداث منذ ان وصلها الاتراك في القرن السابع عشر.. المنطقة التي ستكون مسرحا لحربين قادمتين بين اليمنيين، حيث يجد انصار كل طرف قواعد ومسالك ونقاط عبور وخطوط تراجع وموالين دائما، وحيث حفرت الحكومتان، الشمالية والجنوبية، فيها جيوبا راسخة خلال ظروف التوتر والحرب، ثم تغيبان عنها في ظروف السلم والتعايش الأمر الذي جعل من هذه المحطة شرارة صالحة للاندلاع في أي وقت.
لم تندلع الحرب اليمنية الاولى بالنيابة عن أحد، فقد كان الاستقطاب السياسي في كل من صنعاء وعدن، وتناحر الخيارات والطموحات ومصالح الشرائح، والتداخل القبائلي، وارث الماضي السياسي، كلها وراء غواية الحرب، غير ان العالم العربي كان منصرفا عما يحدث هنا الى جروحه والتباساته عشية حرب تشرين الاول (اكتوبر) ولم يبادر الى تطييب الخواطر حتى حلت الحرب بعد حادث اغتيال مشايخ ملكيين في ظروف غامضة، لكن الحرب ادت الى مفاوضات، وليس ثمة اكثر من اليمنيين من يغرم بالتفاوض و "خذ وهات".
تلك هي العلامة اليمنية الفارقة في سفر الأحداث.. تقول الاعلامية اليمنية د. رؤوفة حسن بهذا الصدد” تتميز الثقافة الشعبية والسياسية المترسخة في اليمن بأنها ثقافة المفاوضات والصلح، اذ نجد ان التفاوض وجلسات المصالحة وحلول الوسط وهي صلب الاعراف القبلية التي سادت السياسة اليمنية القديمة ما زالت تمارس حاليا ولها اثارها على سلوكيتنا حتى الآن” .
ووسط ذهول المتابعين للاحداث اليمنية توجه رئيسا الحكومتين المتحاربتين، الشمالية محسن العيني والجنوبية علي ناصر محمد للتوقيع (هكذا دفعة واحدة) على “اتفاق الوحدة” وهو أول وثيقة وحدوية تمثل القاسم المشترك لمشروعين باسم القيادتين السياسيتين في صنعاء وعدن، وقضت بـ”قيام دولة يمنية واحدة يكون لها علم واحد وشعار واحد وعاصمة واحدة ورئاسة وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة” غير ان مجلس الشوري في الشمال لم يصادق على الاتفاقية واضعا شروطاً جديدة ومقترحات بديلة لاحراج المتفاوضين في حين تخندقت الجماعة الثورية في قيادة الجنوب بخيارها العسكري وراحت تشكك بجدوي الوثيقة داعية الى اقامة وحدة “بين القوى الراغبة في تصفية الاقطاع”.
على ان كلا من العيني وناصر محمد كانا يمثلان الاعتدال في قيادتي الشمال والجنوب، وانهما نجحا في فتح مسار آخر في جدار الحوار المستحيل بين الطرفين، وهذه المرة في طرابلس الليبية، حيث تكللت جهودهما باصدار بيان وحدوي آخر، لكنه لم يحقق خطوات على الارض بالرغم من نجاحه في تهدئة الخواطر السياسية، ربما مؤقتا بانتظار ان تنكسر حلقة من حلقات الشد والجذب، وقد انكسرت فعلا.
ففي الشمال تحركت القوات المسلحة في حزيران (يونيو) عام 1974 من ثكناتها في اطراف العاصمة صنعاء صوب قصر الرئاسة المعروف باسم “قصرالبشائر” في قلب المدينة لتعلن سيطرتها على السلطة السياسية ووضع الرئاسة بيد المقدم ابراهيم الحمدي ومجموعة من قادة الألوية والاسلحة، وقد قطعت هذه الحركة الطريق على محاولة انقلابية اخرى كان ضباط صغار يعدون لها لصالح نظام البعث في العراق، منذ ذلك الوقت بدأت اصابع صدام حسين (المالية) تجد طريقها السالك الى بلاد اليمن.
وإذ عادت دورة التوتر بين الشطرين الى الدوران على نفسها فقد حدث ما يبرر الحرب في جميع الظروف: استقبل الرئيس اليمني الشمال احمد الغشمي وفدا يحمل رسالة من الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي (سالمين) في 24 حزيران 1978 فانفجرت الرسالة وقتل الغشمي وبعد يومين من مقتل الغشمي هرع (سالمين) الي حتفه حين وجّه منافسوه في القيادة الجنوبية رشقة قذائف مخطط لها من منطقة التواهي في العاصمة الى اجتماع كان يحضره مع شلة من انصاره في جزيرة صيرة القريبة، وكان الهدف من هذه المذحة من رأسين، الاول، التخلص من سالمين واحلال فريق قيادي منافس محله (عبدالفتاح اسماعيل) والثاني، تشييع السؤال عمن قتل الغشمي الى مثواه الاخير ودفنه في قبر سالمين.
اما عبد الفتاح اسماعيل القيادي البارز الصاعد فقد تحدث عن تلك "ملابسات" الحروب التي ابتدأت (ولم تنته طبعا) باغتيال الغشمي قائلا: " بعد ان شعرنا اننا أمام مؤامرة وحالة حرب بين الشمال والجنوب، لم يكن بمقدرونا في المكتب السياسي ان نتحمل المسؤولية لوحدنا، فدعونا اللجنة المركزية الي اجتماع استثنائي طارئ في اليوم التالي.. وقلنا بصراحة انه امام هذا العمل المشين (اغتيال الغشمي) من الافضل ان يتنحي (سالمين) عن المسؤولية، وهكذا تم تنفيذ الفصل الثاني من الرحيل بقرار سياسي وقذيفة هاون من صنع روسي .
كان يلزم، يمنيا، ان تشتعل الحرب الثانية بين الشطرين غداة اغتيال الغشمي لولا التداعيات الغريبة في رحيل سالمين (أولاً) ودواعي ترتيب شؤون الرئاستين الجديدتين في عدن وصنعاء (ثانياً) والضغط الاقليمي الذي اتخذ شكلا رادعا للجنوب ودعوة لضبط النفس للشمال (ثالثا) وتراجع المزاج المتطرف (الانتقامي) في كل من المؤسستين العسكريتين في شطري اليمن تحت وطأة المرارة الناجمة عن الاحداث الاخيرة، وربما بسبب حالة الترقب للقرارات المتوقعة بشأن مصير القيادات العسكرية (رابعاً).
لم يستمرهذا الاسترخاء طويلا، إذ تعافت عدن بالدعم السوفيتي متعدد الوجوه، واستقوت صنعاء بانحياز زعامات قبلية جنوبية اليها، وهكذا، ففي شباط (فبراير) عام 1979 اندلعت الحرب على هيئة توترات حدودية، وكأن رؤوسا اينعت في مكان ما وحان قطافها لكن، وقبل الرحيل الجديد، دخل جيشا الشطرين في وحل حرب استنزاف مرهقة لشعبيهما وبلديهما معا، على الرغم من اجتياح طلائع الجيش الجنوبي اراض واسعة وبلدات كثيرة في الشمال وصارت على مشارف مدينة تعز في الطريق الى العاصمة صنعاء.
في غضون ذلك فاجأ الرئيس الجنوبي (الجديد) عبدالفتاح اسماعيل المتابعين بقرار وقف الحرب والدخول في مفاوضات كان الرئيس الشمالي (الجديد) علي عبدالله صالح ينتظرها على احر من الجمر لترسيخ عوده الغض وتأجيل تصفيات الحساب الى وقت آخر.
قرار اسماعيل المفاجئ ربما جاء بعد نصيحة سوفيتية بوجوب التهدئة لكنه بالمقابل اثث المسرح للاطاحة برؤوس قيادية كانت تعارض خيار التفاوض وتلتف حول (علي عنتر) في دعوتها تحقيق الوحدة اليمنية عن طريق"الحرب الثورية".
في نقطة الانتقال الي عقد الثمانينات كان علي عبد الله صالح، وبعد عامين من وصوله الي الرئاسة (في الشمال) يعزز طريقة الى ارتقاء السلطة بلا منافس وفي يده أوراق تستمد رصيدها من امتدادين، الي القبيلة من جهة والى ثكنات المؤسسة العسكرية من جهة ثانية فوق موهبته السياسية البراغماتية، فيما عبد الفتاح اسماعيل(في الجنوب) في طريقه الى خارج اللعبة بعد ان فقد آخر أوراقه.. الاول اختار الكلام لسد فجوات الحكم، والثاني اختار الصمت بعيدا عن كرسي الحكم وذلك في نطاق عملية قيصرية نظيفة اجراها الحزب الاشتراكي الجنوبي الحاكم في تشرين الاول (اكتوبر) عام 1980 وقضت بارسال اسماعيل الى موسكو في استجمام طويل الامد .
كان شعار تحقيق الوحدة اليمنية، آنذاك، بمثابة اللغم الموقوت داخل القيادة السياسية الجنوبية التي اصبح علي ناصر محمد علي رأسها مندفعا الي وقف التداعي في العلاقات مع الجيران مستفيدا من استرخاء اقليمي يعطيه هامشا من حرية الحركة، وانعكس ذلك في التخفيف من العداء للدول الخليجية، فيما حرص على استمرار لقاءات القمة مع قيادة الشطر الشمالي والرئيس علي عبد الله صالح، قفزا من فوق البيان (الوحدوي) الذي وقعه صالح واسماعيل قبل عام في الكويت والتزم فيه الطرفان "بافشال محاولات تكريس التمزق والتجزئة والانفصال".
وليس من دون مغزي ان لا يتضمن بيان الكويت وقبله اتفاقية القاهرة ثم بيان طرابلس أية اشارة صريحة لتحريم استخدام القوة في تحقيق الوحدة، ولا أية رؤيا نحو تحقيق وحدة نظامين سياسيين مختلفين بالطرق السلمية، غير ان الاشارات الواقعية التي رفعت من رصيد علي ناصر محمد في المحافل العربية والدولية اثارت دائرة من "الحسد" والخوف داخل الحزب الاشتراكي ودفعت الوضع القيادي الى استقطاب حاد حيث احتشد في جبهة الاعتراضات عبد الفتاح اسماعيل من منفاه في موسكوجنبا الي جنب مع علي عنتر وصالح مصلح وعلي سالم البيض وسالم صالح وجار الله عمر في حين وقف الي جانب علي ناصر كل من احمد مساعد حسين وعبد العزيز الدالي وأبو بكر باذيب وانيس حسن يحيي وعبد الله غانم وعبد القادر باجمال، وقد انفجر هذا الاحتقان لاحقا ليطيح بالغالبية الساحقة من اعضاء القيادة بين قتيل وهارب، في حرب دارت في غرفة لا تزيد مساحتها عن بضعة امتار مربعة.
وبموازاة ذلك كانت الايديولوجيا في طور ابتذالها عشية عاصفة البيروسترويكا، وكان حالها حال الكتب المقدسة التي تقدم النصائح المجانية لكل من ينشدها، فقد كانت تلك الايديولوجيات قد غذت الاعتقاد باستحالة تحقيق الوحدة بين نظامين اجتماعيين متعارضين بالطرق السلمية واطلقت اوهام الواقعية الساذجة التي تقلل من شأن الألغام والاختلالات البنوية العميقة في الواقع اليمني.
وكانت موسكو كمركز للتأثير علي عدن، وللاشعاع الايديولوجي تضاعف من اثارة التشويش علي الصورة وتزيد ــ عن غفلة أو عن غيرها ــ من اندفاع الاحداث الي نقطة الصدام بين مجموعتي علي ناصر وعبد الفتاح اسماعيل، هذا اضافة الى تأثيرات الحرائق السياسية التي شبت في المنطقة مثل الحرب العراقية ــ الايرانية وانهيار حركة ظفار واحداث اثيوبيا والصومال والسوادن.
وكان كاتب السطور في صورة ما كان يحدث آنذاك.. والصورة غير التصوّر. فقد كان رحيل القادة والزعماء في جمهورية جنوب اليمن يصلح مادة لرواية كابوسية لما تضمه من فواجع ومؤامرات واعمال غدر وتنكيل قضت على اجيال متعاقبة من النخب القيادية، المدنية والعسكرية، بالاضافة الى عشرات الالوف من المدنيين، ومما له مغزى ان بطل تحرير الجنوب ورئيس اول جمهورية مستقلة قحطان الشعبي كان قد قضى على يد رفاقة إعداما بتهمة الخيانة ليفتتح هذا المسلسل الدموي فيما بعد إذ تقاتل الورثة فيما بينهم ونكلوا ببعضهم من غير رحمة.
فمن صنعاء الى عدن ثمة أربع محافظات هي ذمار وإب وتعز ولحج، وكانت بمثابة كواليس خلفية تمد مسرح الاحداث والصراعات بلوازم الوقود والرجال واللاعبين، وفي عدن يطالعك ميناء التواهي الذي شهد الهجوم الشهير لمقاتلي القاعدة على المدمرة الأميركية يو إس إس كول عام200. وعلى بعد مئات الامتار صعودا ستصادفك لافتة عن موقع اسمه رامبو.. انه بيت قديم سكنه الشاعر الفرنسي رامبو يوما، وعلى مرمى بصر منه، تمثال للملكة البريطانية فيكتوريا، وهناك أيضاً ستجد ساعة “بيغ بن” أو “ليتل بن” وهي ثاني ساعة بنتها بريطانيا بعد “بيغ بن” لندن وبنيت هنا عام 1890، أثناء الاحتلال الانجليزي لعدن الذي استمر 138 عاماً وانتهى في العام 1967.
في هذه المدينة دارت مذابح وتصفيات كثيرة بين القادة السياسيين، غير ان مذبحة 13 يناير 1986 الاكثر دموية واثارة واثرا، إذ تتصل احداثها، من زاوية معينة، بما يجري اليوم من احداث ترشح صفا جديدا من الزعماء الى الرحيل عن السلطة.
في ليلة الثاني عشر من يناير، كنا نتابع من بهو فندق عدن مصير آخر الوساطات للتقريب بين الفريقين المتناحرين في قيادة الحزب الاشتراكي الحاكم، وقد استطالت المحاولة المستحيلة التي كان يتبناها “وفد عربي” صديق الى ساعات الفجر، ولم يترشح من الابواب الموصدة غير نبأ سيئ“الفريقان لم يتفقا، ومصرّان على مواقفهما”.
ومع مطلع ضحى ذلك اليوم، الاثنين الثالث عشر من يناير، كانت اعمدة الدخان قد ارتفعت من مقر اللجنة المركزية في منطقة كريتر (فوهة البركان) وفي ملتقى طريقين على بعد ميلين التقيت القيادي في الحزب سالم صالح وهو يتجه الى المقر. سألني: ماذا يحدث؟. قلت له: سمعت اصوات انفجارات. ثم استدار الرجل عائدا، وكان قد نجا من المذبحة، والفضل الى حكمة التأخر عن موعد الاجتماع الذي تحول الى بركة دم.
لقد هبت المدينة تقاتل نفسها قبل ان تزحف اليها قبائل ووحدات من الخارج، ودخل الفريقان المتصارعان (علي ناصر محمد وعبدالفتاح اسماعيل) في قتال على كل شبر من المدينة استمر لعشرة ايام طاحنة، وانتهى الى مقتل القياديين علي عنتر وصالح مصلح وعلي شايع وعبدالفتاح إسماعيل واصيب علي سالم البيض وهرب علي ناصر محمد وانصاره بعد ان اودت المعارك بحياة احد عشر ألف قتيل وسجن سبعة آلاف وتشريد 250 ألفا من المواطنين إلى شمال اليمن وعدد من الدول الخليجية. كما قتل 52 قياديا من قيادات الحزب الاشتراكي الجنوبي واعدم عدد منهم بينهم فاروق علي احمد الذي اتهم بالتخطيط للمجزرة.
قبل الاحداث باسبوع سألتُ فاروق علي احمد عما سيؤول اليه الصراع بين المجموعتين المتصارعتين في القيادة، فردّ علي قائلا: أحدنا سيرحل.
وبعد المذبحة خرج الحزب الاشتراكي الحاكم باسوأ سمعة ونفوذ على جميع المستويات، في حين انتشرت صور “الشهداء الاربعة” وهم ابرز القيادات التي ساهمت بطرد الانجليز وتأسيس الجمهورية في جنوب اليمن على كل اعمدة العاصمة عدن وتكونت قيادة جديدة للحزب بزعامة علي سالم البيض الذي نجا من المذبحة باصابات بليغة، وطـُرح على بساط البحث الموقف من النظام في الشمال ومن شعارات وحدة الشطرين، في ظروف ينعدم فيها توازن القوى بين النظامين الحاكمين، وبدا منذ البداية ان علي عبدالله صالح سيفرض مشيئته وقيادته على شركائه الجنوبيين الجدد في اللعبة.
تعاملت القيادتان، أول الأمر، بحذر ازاء بعضهما، لكنهما، لاسباب عديدة، أرجأتا الخصومة النائمة الى حين، خصوصا بعد ان اعلن عن وجود ثروة نفطية قيد الاكتشاف وعابرة للحدود بين الشطرين والحاجة هنا ماسة لاقامة افضل العلاقات لتحقيق عمليات التنقيب والاستخراج والاستثمار والتصدير، وشاعت النظرية المتفائلة التي تقول بان الوحدة من أكبر ضمانات تحول اليمن الى دولة نفطية وانه لا يمكن تأجيل الافادة من هذه الثروة الى ما بعد ترسيم الحدود التي يصعب الخوض فيها بسبب تناقضها مع البرامج السياسية المعلنة في كل من عدن وصنعاء، وآنذاك حسم السياسي الشمالي عبدالكريم الارياني الجدل بالاعلان “لا حدود في الوطن الواحد.. فالحدود لم تخطط بيننا اصلا” ورد البيض على ذلك من الجنوب بالقول “اتمنى لو انجزت الوحدة قبل مواعيدها المحددة”.
وعلى هذا الايقاع وقـّع الطرفان ماسمي بـ”بيان عدن” الوحدوي في تشرين الثاني (نوفمبر ) عام 1989 حيث ابرما ما يشبه الصفقة على تقاسم السلطة والنفوذ قفزا من فوق حقيقة واضحة للعيان هي ان الجنوبيين كانوا الاضعف في معادلة الوحدة، غير ان هذا الشعور دفن مؤقتا، بل وسمح لتمرير اعلان الوحدة بين الشطرين في 22 ايار (مايو) عام 1990 .
وإذ تسارعت عمليات بناء الوحدة في مسارات تشريع دستور جديد وانتخابات عامة وتشكيل حكومة ائتلافية، فقد تسارعت ايضا مظاهر الاستقطاب والتخندق بين الشطرين والقيادتين، وظهرت شكاوى الجنوبيين الى العلن حيال تحولهم الى ضحايا او مواطنين من الدرجة الثانية ومحاولات الالتفاف على التعاقدات والوعود حول الشراكة المتساوية في الوطن، وسرعان ما وضعت الوثيقة التحالفية بين القيادتين جانبا، عندما ترك البيض موقعه كنائب للرئيس واعتكف في منزله، وانتقلت الريبة ازاء مستقبل الدولة الموحدة الى تصريحات كبار القادة والمسؤولين مع صهيل الرصاص في الشوارع وهو يطارد السياسيين ويدك المقرات ويقطع الطرق دون أي رقيب، ومن غير ان يعرف المراقب من أية حلقة يمكن سحب السفينة المضطربة الى شاطئ الامان سيما وقد تزايدت (الملفات) المضطربة: ملف الامن، ملف الاقتصاد، ملف الادارة، ملف عدن، ملف الاراضي، ملف النفط، ملف الاختطافات، ملف الحدود.. عدا عن ملفات الدستور والرئاسة والمعارضة والحريات..الخ.
وحين تأخرت مبادرات المراجعة الجادة لما حصل، راحت الحياة العامة في اليمن، شمالا وجنوبا، تغرق في خصومات متناسلة، فـُسّرت في البداية على انها من بعض تجليات الخلافات السياسية العابرة أو من تداعيات ازمة الخليج التي قلبت معادلات المنطقة فيما هي أبعد واعمق من ذلك بكثير، وهي أقرب الى حافة حرب يمنية جديدة، تضاف الى الحروب الاثني عشر الفا.
ففي مطلع العام 1994 كانت اليمن الموحدة توا مرشحة لحرب ضروس جديدة بما يؤدي الي اختلال الوضع الاقليمي، وكان هذا الاستنتاج قد وجد له رضىً خفيّ لدي القادة السياسيين المتصارعين، فقد صاروا منذ هذا الحين يتلقون دعوات العواصم للتشاور و"التحريض" كما يتلقون المناشدات والرسائل من الهيئات الدولية والاقليمية المختلفة، وتؤخذ تصريحاتهم وبياناتهم على واجهات الصحف وصدارة نشرات الاخبار المرئية والمسموعة.. والغريب ان اكثر من كان يحذر من خطر الحرب الاهلية هم اولئك الذين جرّوا كل شيء الي محذور الحرب: الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض .
وفي السابع من شباط (فبراير) عام 1994 نجحت ارادات التسوية في عقد لقاء بالعاصمة الاردنية عمان لتوقيع وثيقة سميت بوثيقة "العهد والاتفاق" التي شغلت 17 صفحة من الافكار والآليات والالتزامات والاجراءات والاولويات الكفيلة باحتواء الموقف من جوانبه المختلفة، غير ان الساعات القليلة التي اعقبت التوقيع كشفت ان الزعماء (الثلاثة) الموقعين ذهبوا بعيدا عن لوازم السلام: صالح الى تفجير الموقف في ثكنة عمران لانهاء الجيب العسكري الموالي لنائبه في خاصرة صنعاء، والبيض الي اعتكاف جديد في عدن، ورئيس مجلس النواب عبدالله الاحمر الي فتح النار علي وثيقة العهد والاتفاق واعلان التحلل منها، ورئيس الحكومية حيدرالعطاس التخلي عن منصبه.. وفي ذلك مفارقة (يمنية) أخرى حين يتحول الحل نفسه الي عود ثقاب.. وقد اشتعل فعلا، وكانت نتيجتها سقوط فريق من الحكام ومقتل عشرات الالوف من المدنيين وخراب بالالوان الطبيعية.
ولم تكن تلك الحرب قد فاجأت المراقبين لكن المفاجأة تمثلت في عمق الغرائز الانتقامية في البيئة السياسية اليمنية واشتعال المكاره بين الاشقاء، ولم يكن قد عرف على نطاق واسع بان حكام هذه البلاد العريقة كانوا قد قرأوا بالمقلوب نصيحة بلقيس ملكة سبأ لهم بوجوب التضحية بالنفس من اجل الشعب.. فضحوا بالشعب من اجل انفسهم.
هل أعجبك الموضوع:

ليست هناك تعليقات :